[ ص: 494 ] قرأ الحرميان وابن عامر ( تشقق ) بإدغام التاء من تتشقق في الشين هنا . وفي ( ق ) وباقي السبعة بحذف تلك التاء ، ويعني كقوله : ( يوم القيامة السماء منفطر به ) . وقرأ الجمهور : ( ونزل ) ماضيا مشددا مبنيا للمفعول ، وابن مسعود وأبو رجاء ( ونزل ) ماضيا مبنيا للفاعل . وعنه أيضا وأنزل مبنيا للفاعل ، وجاء مصدره ( تنزيلا ) ، وقياسه إنزالا إلا أنه لما كان معنى أنزل ونزل واحدا جاز مجيء مصدر أحدهما للآخر ، كما قال الشاعر :
حتى تطويت انطواء الخصب
كأنه قال : حتى انطويت . وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية " وأنزل " ماضيا رباعيا مبنيا للمفعول ، مضارعه ينزل . وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو ( ونزل ) ثلاثيا مخففا مبنيا للفاعل ، وهارون عن أبي عمرو وتنزل بالتاء من فوق مضارع نزل مشددا مبنيا للفاعل ، وأبو معاذ وخارجة ، عن أبي عمرو ( ونزل الملائكة ) بضم النون وشد الزاي ، أسقط النون من وننزل ، وفي بعض المصاحف " وننزل " بالنون مضارع نزل مشددا مبنيا للفاعل . ونسبها ابن عطية لابن كثير وحده ، قال : وهي قراءة أهل مكة ، ورويت عن أبي عمرو . وعن أبي أيضا و ( تنزلت ) . وقرأ أبي و ( نزلت ) ماضيا مشددا مبنيا للمفعول بتاء التأنيث . وقال صاحب اللوامح عن الخفاف عن أبي عمرو : ( ونزل ) مخففا مبنيا للمفعول ( الملائكة ) رفعا ، فإن صحت القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وتقديره : ونزل فحذف النزول ، ونقل إعرابه إلى ( الملائكة ) بمعنى نزل نازل الملائكة ; لأن المصدر يكون بمعنى الاسم ، وهذا مما يجيء على مذهب نزول الملائكة في ترتيب اللازم للمفعول به ; لأن الفعل يدل على مصدره ، انتهى . سيبويه
وقال أبو الفتح : وهذا غير معروف ; لأن ( نزل ) لا يتعدى إلى مفعول فيبنى هنا للملائكة ، ووجهه أن يكون مثل زكم الرجل وجن فإنه لا يقال إلا أزكمه الله وأجنه . وهذا باب سماع لا قياس ، انتهى . فهذه إحدى عشرة قراءة . والظاهر أن الغمام هو السحاب المعهود . وقيل هو الله في قوله : ( في ظلل من الغمام ) . وقال : الغمام الذي يأتي الله فيه في الجنة زعموا . وقال ابن جريج الحسن : سترة بين السماء والأرض تعرج الملائكة فيه تنسخ أعمال بني آدم ليحاسبوا . وقيل : غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن لبني إسرائيل في تيههم ، والظاهر أن السماء هي المظلة لنا . وقيل : تتشقق سماء سماء ; قاله مقاتل . والباء باء الحال ، أي : متغيمة ، أو باء السبب ، أي : بسبب طلوع الغمام منه كأنه الذي تتشقق به السماء ، كما تقول : شق السنام بالشفرة وانشق بها ، ونظيره قوله : ( السماء منفطر به ) ، أو بمعنى عن أقوال ثلاثة . والفرق بين الباء السببية وعن أن انشق عن [ ص: 495 ] كذا تفتح عنه وانشق بكذا أنه هو الشاق له .
( ونزل الملائكة ) ، أي : إلى الأرض لوقوع الجزاء والحساب . و ( الحق ) صفة للملك ، أي : الثابت ; لأن كل ملك يومئذ يبطل ، ولا يبقى إلا ملكه تعالى وخبر الملك ( يومئذ ) . والرحمن متعلق بالحق أو للبيان ، أعني : ( للرحمن ) . وقيل : الخبر ( للرحمن ) و ( يومئذ ) معمول للملك . وقيل : الخبر ( الحق ) و ( للرحمن ) متعلق به أو للبيان ، وعسر ذلك اليوم على الكافرين بدخولهم النار وما في خلال ذلك من المخاوف . ودل قوله : ( على الكافرين ) على تيسيره على المؤمنين ، ففي الحديث أنه يهون حتى يكون على المؤمن أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا ، والظاهر عموم الظالم ; إذ اللام فيه للجنس ; قاله مجاهد وأبو رجاء ، وقالا : فلان هو كناية عن الشيطان .
وقال وجماعة : ( الظالم ) هنا ابن عباس عقبة بن أبي معيط ; إذ كان جنح إلى الإسلام وأبي بن خلف هو المكني عنه بفلان ، وكان بينهما مخالة فنهاه عن الإسلام فقبل منه . وعن أيضا . عكس هذا القول . قيل : وسبب نزولها هو ابن عباس عقبة وأبي . وقيل : كان عقبة خليلا لأمية فأسلم عقبة ، فقال أمية : وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمدا ، فكفر وارتد لرضا أمية ، فنزلت ; قاله . وذكر من إساءة الشعبي عقبة على الرسول ما كان سبب أن قال له الرسول - عليه السلام - : " لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف " . فقتل عقبة يوم بدر صبرا أمر عليا فضرب عنقه ، وقتل أبي بن خلف يوم أحد في المبارزة . والمقصود ذكر بتندم الظالم وتمنيه أنه لم يكن أطاع خليله الذي كان يأمره بالظلم ، وما من ظالم إلا وله في الغالب خليل خاص به يعبر عنه بفلان . والظاهر أن الظالم ( يعض على يديه ) فعل النادم المتفجع . وقال هول يوم القيامة الضحاك : يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت ، ولا يزال كذلك كلما أكلها نبتت . وقيل : هو مجاز عبر به عن التحير والغم والندم والتفجع ، ونقل أئمة اللغة أن المتأسف المتحزن المتندم يعض على إبهامه ندما ، وقال الشاعر :
لطمت خدها بحمر لطاف نلن منها عذاب بيض عذاب
فتشكى العناب نور أقاح واشتكى الورد ناضر العناب
وفي المثل : يأكل يديه ندما ويسيل دمعه دما . وقال : عض الأنامل واليدين والسقوط في اليد وأكل البنان وحرق الأسنان والأرم وفروعها ، كنايات عن الغيظ والحسرة ; لأنها من روادفها فتذكر الرادفة ويدل بها على المردوف فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة ، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجد عند لفظ المكنى عنه ، انتهى . وقال الشاعر في حرق الناب : الزمخشري
أبى الضيم والنعمان يحرق نابه عليه فأفضى والسيوف معاقله
( يقول ) في موضع الحال ، أي : قائلا : ( يا ليتني ) ، فإن كانت اللام للعهد فالمعنى أنه تمنى عقبة أن لو صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلك طريق الحق ، وإن كانت اللام للجنس فالمعنى أنه تمنى سلوك طريق الرسول ، وهو الإيمان ، ويكون الرسول للجنس ; لأن كل ظالم قد كلف اتباع ما جاء به رسول من الله ، إلى أن ، فلا يقبل بعد مجيئه دين غير الذي جاء به . ثم ينادي بالويل والحسرة يقول : ( يا ويلتى ) ، أي : يا هلكاه ، كقوله : ( جاءت الملة المحمدية فنسخت جميع الملل يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله ) . وقرأ الحسن وابن قطيب ( يا ويلتي ) بكسر التاء ، والياء ياء الإضافة ، وهو الأصل ; لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته ، يقول لها : تعالي فهذا أوانك . وقرأت فرقة بالإمالة . قال أبو علي : وترك الإمالة أحسن ; لأن هذه اللفظة الياء فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفا ; فرارا من الياء ، فمن أمال رجع إلى الذي عنه فر أولا . وفلان كناية [ ص: 496 ] عن العلم ، وهو متصرف ، وفل كناية عن نكرة الإنسان نحو : يا رجل ، وهو مختص بالنداء ، وفلة بمعنى يا امرأة كذلك ، ولام فل ياء أو واو ، وليس مرخما من فلان ، خلافا للفراء . ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط في قولهم : فل كناية عن العلم كفلان . وفي كتاب ما قلناه بالنقل عن العرب . سيبويه
والذكر ذكر الله أو القرآن أو الموعظة ، والظاهر حمل الشيطان على ظاهره ; لأنه هو الذي وسوس إليه في مخالة من أضله سماه شيطانا ; لأنه يضل كما يضل الشيطان ، ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة . وتحتمل هذه الجملة أن تكون من تمام كلام الظالم ، ويحتمل أن تكون إخبارا من كلام الله على جهة الدلالة على وجه ضلالهم ، والتحذير من الشيطان الذي بلغهم ذلك المبلغ . وفي الحديث الصحيح تمثيل الجليس الصالح بالمسك والجليس السوء بنافخ الكير . والظاهر أن دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه ، وإخباره بهجر قومه قريش ، هو مما جرى له في الدنيا ; بدليل إقباله عليه مسليا مؤانسا بقوله : ( القرآن وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين ) ، وأنه هو الكافي في هدايته ونصره ، فهو وعد منه بالنصر ، وهذا القول من الرسول وشكايته فيه تخويف لقومه . وقالت فرقة منهم أبو مسلم إنه قوله - عليه السلام - في الآخرة كقوله : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) ، والظاهر أن ( مهجورا ) بمعنى متروكا من الإيمان به ، مبعدا مقصيا من الهجر ، بفتح الهاء . وقاله مجاهد والنخعي وأتباعه . وقيل : من الهجر ، والتقدير ( مهجورا ) فيه ، بمعنى أنه باطل . وأساطير الأولين أنهم إذا سمعوه هجروا فيه كقوله : ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) .
قال : ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر كالملحود والمعقول ، والمعنى اتخذوه هجرا ، والعدو يجوز أن يكون واحدا وجمعا ، انتهى . الزمخشري
وانتصب ( هاديا ) و ( نصيرا ) على الحال أو على التمييز . وقالوا - أي الكفار - على سبيل الاقتراح والاعتراض الدال على نفورهم عن الحق . قال : ( نزل ) هاهنا بمعنى أنزل لا غير ، كخبر بمعنى أخبر ، وإلا كان متدافعا ، انتهى . وإنما قال إن ( نزل ) بمعنى أنزل ; لأن نزل عنده أصلها أن تكون للتفريق ، فلو أقره على أصله عنده من الدلالة على التفريق تدافع هو . وقوله : ( جملة واحدة ) ، وقد قررنا أن ( نزل ) لا تقتضي التفريق ; لأن التضعيف فيه عندنا مرادف للهمزة . وقد بينا ذلك في أول آل عمران ، وقائل ذلك كفار الزمخشري قريش ، قالوا : لو كان هذا من عند الله لنزل جملة كما نزلت التوراة والإنجيل . وقيل : قائلو ذلك اليهود ، وهذا قول لا طائل تحته ; لأن أمر الاحتجاج به والإعجاز لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرقا ، بل الإعجاز في نزوله مفرقا أظهر ; إذ يطالبون بمعارضة سورة منه ، فلو نزل جملة واحدة وطولبوا بمعارضته مثل ما نزل لكانوا أعجز منهم حين طولبوا بمعارضة سورة منه فعجزوا ، والمشار إليه غير مذكور . فقيل : هو من كلام الكفار وأشاروا إلى التوراة والإنجيل ، أي : تنزيلا مثل تنزيل تلك الكتب الإلهية جملة واحدة ، ويبقى ( لنثبت به فؤادك ) تعليلا لمحذوف ، أي : فرقناه في أوقات ( لنثبت به فؤادك ) . وقيل : هو مستأنف من كلام الله تعالى لا من كلامهم ، ولما تضمن كلامهم معنى لم أنزل مفرقا أشير بقوله ( كذلك ) إلى التفريق ، أي : ( كذلك ) أنزل مفرقا .
قال : والحكمة فيه أن نقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه ; لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شيء ، وجزءا عقيب جزء ، ولو ألقي عليه جملة واحدة لكان يعيا في حفظه ، والرسول - عليه السلام - فارقت حاله حال الزمخشري داود وموسى وعيسى - عليهم السلام - حيث كان أميا لا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين ، فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ ، فأنزل عليه منجما في عشرين سنة . وقيل : في ثلاث وعشرين سنة ، وأيضا فكان ينزل على حسب الحوادث وجواب السائلين ; ولأن [ ص: 497 ] بعضه منسوخ وبعضه ناسخ ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقا ، انتهى .
واللام في ( لنثبت به ) لام العلة . وقال أبو حاتم : هي لام القسم ، والتقدير والله ليثبتن ، فحذفت النون وكسرت اللام ، انتهى . وهذا قول في غاية الضعف ، وكان ينحو إلى مذهب الأخفش أن جواب القسم يتلقى بلام كي ، وجعل منه ( ولتصغى إليه أفئدة ) ، وهو مذهب مرجوح . وقرأ عبد الله " ليثبت " بالياء ، أي : ليثبت الله ، ( ورتلناه ) أي : فصلناه . وقيل : بيناه . وقيل : فسرناه .
( ولا يأتونك بمثل ) يضربونه على جهة المعارضة منهم كتمثيلهم في هذه بالتوراة والإنجيل إلا جاء القرآن بالحق في ذلك ، ثم هو أوضح بيانا وتفصيلا . وقال : ( الزمخشري ولا يأتونك بمثل ) بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة ، كأنه مثل في البطلان إلا أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنه ، وبما هو أحسن معنى ومؤدى من سؤالهم . ولما كان التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه ، فقالوا : تفسير هذا الكلام كيت وكيت ، كما قيل معناه كذا أو ( ولا يأتونك ) بحال وصفة عجيبة ، يقولون : هلا كانت هذه صفتك وحالك ، نحو أن يقرن بك ملك ينذر معك ، أو يلقى إليك كنز ، أو تكون لك جنة ، أو ينزل عليك القرآن جملة ، إلا أعطيناك ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه ، وما هو أحسن تكشيفا لما بعثت عليه ودلالة على صحته ، انتهى . وقيل : ( ولا يأتونك ) بشبهة في إبطال أمرك إلا جئناك بالحق الذي يدحض شبهة أهل الجهل ويبطل كلام أهل الزيغ ، والمفضل عليه محذوف ، أي : ( وأحسن تفسيرا ) من مثلهم ، ومثلهم قولهم : ( لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة ) .
و ( الذين يحشرون ) . قال الكرماني : متصل بقوله : ( أصحاب الجنة يومئذ ) الآية . قيل : ويجوز أن يكون متصلا بقوله : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين ) انتهى . والذي يظهر أنهم لما اعترضوا في حديث القرآن وإنزاله مفرقا كان في ضمن كلامهم أنهم ذوو رشد وخير ، وأنهم على طريق مستقيم ، ولذلك اعترضوا فأخبر تعالى بحالهم وما يئول إليه أمرهم في الآخرة بكونهم ( شر مكانا وأضل سبيلا ) ، والظاهر أنه يحشر الكافر على وجهه بأن يسحب على وجهه . وفي الحديث : " إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم " ، وهذا قول الجمهور . وقيل : هو مجاز للذلة المفرطة والهوان والخزي . وقيل : هو من قول العرب مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين ذهب . ويقال : مضى على وجهه إذا أسرع متوجها لقصده ، و ( شر ) و ( أضل ) ليسا على بابهما من الدلالة على التفضيل . وقوله : ( شر مكانا ) أي : مستقرا ، وهو مقابل لقوله : ( خير مستقرا ) ، ويحتمل أن يراد بالمكان المكانة والشرف لا المستقر . وأعربوا ( الذين ) مبتدأ والجملة من ( أولئك ) في موضع الخبر ، ويجوز عندي أن يكون ( الذين ) خبر مبتدأ محذوف ، لما تقدم ذكر الكافرين وما قالوا قال إبعادا لهم وتسميعا بما يئول إليه حالهم ، هم ( الذين يحشرون ) ثم استأنف إخبارا أخبر عنهم فقال : ( أولئك شر مكانا ) .