[ ص: 511 ] لما جعلت قريش سؤالها عن اسمه الذي هو الرحمن سؤالا عن مجهول ; نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التي تعرف به وتوجب الإقرار بألوهيته . ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما ، ووصف نفسه بالرحمن ، وسألوا هم فيه عما وضع في السماء من النيرات وما صرف من حال الليل والنهار ; لبادروا بالسجود والعبادة للرحمن ، ثم نبههم على ما لهم به اعتناء تام من رصد الكواكب وأحوالها ووضع أسماء لها . والظاهر أن المراد بالبروج المعروفة عند العرب ، وهي منازل الكواكب السيارة ، وهي : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت . سميت بذلك لشبهها بما شبهت به . وسميت بالبروج التي هي القصور العالية ; لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها ، واشتقاق البرج من التبرج لظهوره .
وقيل : البروج هنا القصور في الجنة . قال . وكان أصحاب الأعمش عبد الله يقرءونها ( في السماء ) قصورا . وقال أبو صالح : البروج هنا الكواكب العظام . قال ابن عطية : والقول بأنها قصور في الجنة تحط من غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل . والضمير في ( فيها ) الظاهر أنه عائد على السماء . وقيل : على البروج ، فالمعنى وجعل في جملتها ( سراجا ) . وقرأ الجمهور ( سراجا ) على الإفراد وهو الشمس . وقرأ عبد الله وعلقمة والأخوان ( سرجا ) بالجمع مضموم الراء ، وهو يجمع الأنوار ، فيكون خص القمر بالذكر تشريفا . وقرأ والأعمش أيضا الأعمش والنخعي وابن وثاب كذلك بسكون الراء . وقرأ الحسن والأعمش والنخعي وعصمة عن عاصم ( وقمرا ) ، بضم القاف وسكون الميم ، فالظاهر أنه لغة في القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب . وقيل : جمع قمراء ، أي ليلة قمراء كأنه قال : وذا قمر منير ; لأن الليلة تكون قمراء بالقمر ، فأضافه إليها ، ونظيره في بقاء حكم المضاف بعد سقوطه وقيام المضاف إليه مقامه قول حسان :
بردى يصفق بالرحيق السلسل
يريد ماء بردى . فمنيرا وصف لذلك المحذوف ، كما قال يصفق بالياء من تحت ، ولو لم يراع المضاف لقال : تصفق بالتاء ، وقال ( منيرا ) ، أي : مضيئا ، ولم يجعله ( سراجا ) كالشمس ; لأنه لا توقد له .
وانتصب ( خلفة ) على الحال . فقيل : هو مصدر خلف خلفة . وقيل : هو اسم هيئة كالركبة ووقع حالا اسم الهيئة في قولهم : مررت بماء قعدة رجل ، وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحد منهما الآخر . والمعنى جعلهما ذوي خلفة ، أي : ذوي عقبة يعقب هذا ذاك وذاك هذا ، ويقال الليل والنهار يختلفان كما يقال يعتقبان ، ومنه قوله : ( واختلاف الليل والنهار ) ، ويقال : بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيرا إلى متبرزه ، ومن هذا المعنى قول زهير :
بها العيس والآرام يمشين خلفة
( وقول الآخر ) يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا :
ولها بالماطرون إذا أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتفعت سكنت من جلق بيعا
في بيوت وسط دسكرة حولها الزيتون قد ينعا
وقيل : ( خلفة ) في الزيادة والنقصان . وقال مجاهد وقتادة : هذا أسود وهذا أبيض ، وهذا طويل وهذا قصير . ( والكسائي لمن أراد أن يذكر ) . قال عمر وابن عباس والحسن : معناه ( لمن أراد أن يذكر ) ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه . وقال مجاهد وغيره : أي يعتبر [ ص: 512 ] بالمصنوعات ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم . وقال : وعن الزمخشري : يتذكر ، والمعنى لينظر في اختلافهما الناظر فيعلم أن لا بد لانتقالهما من حال إلى حال ، وتغيرهما من ناقل ومغير ، ويستدل بذلك على عظم قدرته ويشكر الشاكر على النعمة من السكون بالليل والتصرف بالنهار ، كما قال تعالى : ( أبي بن كعب ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) ، وليكونا وقتين للمتذكر والشاكر من فاته في أحدهما ورده من العبادة أتى به في الآخر . وقرأ النخعي وابن وثاب وزيد بن علي وطلحة وحمزة ( تذكر ) مضارع ذكر خفيفا .
ولما تقدم ذكر الكفار وذمهم جاء ( لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) ذكر أحوال المؤمنين المتذكرين الشاكرين ، فقال : ( وعباد الرحمن ) ، وهذه إضافة تشريف وتفضل ، وهو جمع عبد . وقال ابن بحر : جمع عابد كصاحب وصحاب ، وتاجر وتجار ، وراجل ورجال ، أي : الذين يعبدونه حق عبادته . والظاهر أن ( وعباد ) مبتدأ و ( الذين يمشون ) الخبر . وقيل : أولئك الخبر و ( الذين ) صفة ، وقوم من عبد القيس يسمون العباد ; لأن كسرى ملكهم دون العرب . وقيل : لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عباد الله . وقرأ اليماني : ( وعباد ) جمع عابد كضارب وضراب . وقرأ الحسن : ( وعبد ) بضم العين والباء . وقرأ السلمي واليماني ( يمشون ) مبنيا للمفعول مشددا . والهون : الرفق واللين . وانتصب ( هونا ) على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : مشيا هونا أو على الحال ، أي : يمشون هينين في تؤدة وسكينة وحسن سمت ، لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا ، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق . وقال مجاهد : بالحلم والوقار . وقال : بالطاعة والعفاف والتواضع . وقال ابن عباس الحسن : حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا . وقال ابن عطية : ( هونا ) عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم ، فذكر من ذلك المعظم لا سيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرة الناس وخلطتهم ، ثم قال : ( هونا ) بمعنى أمره كله هون أي ليس بخشن ، وذهبت فرقة إلى أن ( هونا ) مرتبط بقوله : ( يمشون على الأرض ) ، أي : أن المشي هو الهون ، ويشبه أن يتأول هذا على أن يكون أخلاق ذلك الماشي ( هونا ) مناسبة لمشيه فيرجع القول إلى نحو ما بينا ، وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل ; لأن رب ماش ( هونا ) رويدا ، وهو ذنب أطلس . وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب . وهو - عليه السلام - الصدر في هذه الآية ، وقوله - عليه السلام - : " من مشى منكم في طمع فليمش رويدا " . أراد في عقد نفسه ولم يرد المشي وحده ; ألا ترى أن المبطلين المنحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر :
كلهم يمشي رويدا كلهم يطلب صيدا
وقال : سرعة المشي تذهب ببهاء الوجه ، يريد الإسراع الخفيف ; لأنه يخل بالوقار ، والخير في التوسط . وقال الزهري : إنه رأى في النوم من فسر له ( زيد بن أسلم الذين يمشون على الأرض هونا ) بأنهم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض . وقال عياض بن موسى : كان - عليه السلام - يرفع في مشيه رجليه بسرعة ، وعدو خطوه خلاف مشية المختال ، ويقصد سمته وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة ، كما قال : " إنما ينحط من صبب " . وكان عمر يسرع جبلة لا تكلفا .