معنى هذه الآية الكريمة ظاهر ، وهو أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - شكا إلى ربه هجر قومه ، وهم كفارقريش لهذا القرآن العظيم ، أي : تركهم لتصديقه والعمل به ، وهذه شكوى عظيمة ، وفيها أعظم تخويف لمن هجر هذا القرآن العظيم ، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم ، ولم يعتقد ما فيه من العقائد ، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال .
واعلم أن السبكي قال : إنه استنبط من هذه الآية الكريمة من سورة " الفرقان " مسألة أصولية ، وهي أن الكف عن الفعل فعل . والمراد بالكف الترك ، قال في طبقاته : لقد وقفت على ثلاثة أدلة تدل على أن الكف فعل لم أر أحدا عثر عليها .
أحدها : قوله تعالى : وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ، فإن الأخذ : التناول ، والمهجور : المتروك ، فصار المعنى تناولوه متروكا ، أي : فعلوا تركه ، انتهى محل الغرض منه بواسطة نقل صاحب " نشر البنود ، شرح مراقي السعود " ، في الكلام على قوله :
فكفنا بالنهي مطلوب النبي
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : استنباط السبكي من هذه الآية أن الكف فعل وتفسيره لها بما يدل على ذلك ، لم يظهر لي كل الظهور ، ولكن هذا المعنى الذي زعم أن هذه الآية الكريمة دلت عليه ، وهو كون الكف فعلا دلت عليه آيتان كريمتان من سورة " المائدة " ، دلالة واضحة لا لبس فيها ، ولا نزاع . فعلى تقدير صحة ما فهمه السبكي من آية " الفرقان " هذه ، فإنه قد بينته بإيضاح الآيتان المذكورتان من سورة " المائدة " . أما الأولى منهما ، فهي قوله تعالى : لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون [ 5 \ 63 ] فترك الربانيين والأحبار نهيهم عن قول الإثم وأكل السحت سماه الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة صنعا في قوله : لبئس ما كانوا يصنعون ، أي : وهو تركهم النهي المذكور ، والصنع أخص من مطلق الفعل ، فصراحة [ ص: 49 ] دلالة هذه الآية الكريمة على أن الترك فعل في غاية الوضوح كما ترى .
وأما الآية الثانية ، فهي قوله تعالى : كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون [ 5 \ 79 ] فقد سمى جل وعلا في هذه الآية الكريمة تركهم التناهي عن المنكر فعلا ، وأنشأ له الذم بلفظة بئس التي هي فعل جامد لإنشاء الذم في قوله : لبئس ما كانوا يفعلون [ 5 \ 97 ] أي : وهو تركهم التناهي ، عن كل منكر فعلوه ، وصراحة دلالة هذه الآية أيضا على ما ذكر واضحة ، كما ترى .
وقد دلت أحاديث نبوية على ذلك ; كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ، فقد سمى - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ترك أذى المسلمين إسلاما ، ومما يدل من كلام العرب على أن الترك فعل قول بعض الصحابة في وقت بنائه - صلى الله عليه وسلم - لمسجده " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " بالمدينة :
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
فسمى قعودهم عن العمل ، وتركهم له عملا مضللا ، وقد أشار صاحب " مراقي السعود " ، إلى أن الكف فعل على المذهب ، أي : وهو الحق . وبين فروعا مبنية على ذلك نظمها الشيخ الزقاق في نظمه المسمى بالمنهج المنتخب ، وأورد أبيات الزقاق في ذلك ، وقال : وجلبتها هنا على سبيل التضمين ، وهذا النوع يسمى استعانة ، وهو تضمين بيت فأكثر بقوله :
فكفنا بالنهي مطلوب النبي والكف فعل في صحيح المذهب
له فروع ذكرت في المنهج وسردها من بعد ذا البيت يجي
من شرب أو خيط ذكاة فضل ما وعمد رسم شهادة وما
عطل ناظر وذو الرهن كذا مفرط في العلف فادر المأخذا
وكالتي ردت بعيب وعدم وليها وشبهها مما علم
فالأبيات الثلاثة الأخيرة من نظم الشيخ الزقاق المسمى بالمنهج المنتخب ، وفيها بعض الفروع المبنية على الخلاف في الكف ، هل هو فعل ، وهو الحق أو لا ؟ وقول الزقاق في الأول من أبياته من شرب متعلق بقوله قبله :
وهل كمن فعل تارك كمن له بنفع قدرة لكن كمن
من شرب . . إلخ .
[ ص: 50 ] فقوله : من شرب بيان للنفع الكامن في قوله :
له بنفع قدرة لكن كمن
، أي : لكنه ترك النفع مع قدرته عليه ، فتركه له كفعله لما حصل بسبب تركه من الضرر على القول بأن الترك فعل ، ومراده بقوله : من شرب أن من عنده فضل شراب ، وترك إعطاءه لمضطر حتى مات عطشا ، فعلى أن الترك فعل يضمن ديته ، وعلى أنه ليس بفعل ، فلا ضمان عليه ، وفضل الطعام كفضل الشراب في ذلك ، وقوله : أو خيط يعني أن من منع خيطا عنده ممن شق بطنه ، أو كانت به جائفة ، حتى مات ضمن الدية على القول بأن الترك فعل ، وعلى عكسه فلا ضمان ، وقوله : ذكاة ، يعني : أن من مر بصيد لم ينفذ مقتله وأمكنته تذكيته فلم يذكه حتى مات ، هل يضمنه أو لا ؟ على الخلاف المذكور .وقوله : فضل ما ، يعني : أن من عنده ماء فيه فضل عن سقي زرعه ولجاره زرع ولا ماء له إذا منع منه الماء حتى هلك زرعه ، هل يضمنه أو لا ؟ على الخلاف المذكور ، وقوله : وعمد ، يعني : أنه إذا كانت عنده عمد جمع عمود ، فمنعها من جار له جدار يخاف سقوطه حتى سقط ، هل يضمن أو لا ؟ وقوله : رسم شهادة ، يعني : أن من منع وثيقة فيها الشهادة بحق حتى ضاع الحق ، هل يضمنه أو لا ؟ وقوله : وما عطل ناظر ، يعني : أن الناظر على مال اليتيم مثلا إذا عطل دوره فلم يكرها ، حتى فات الانتفاع بكرائها زمنا أو ترك الأرض حتى تبورت هل يضمن أو لا ؟ وقوله : وذو الرهن : يعني إذا عطل المرتهن كراء الرهن ، حتى فات الانتفاع به زمنا ، وكان كراؤه له أهمية ، هل يضمن أو لا ؟ وقوله : كذا مفرط في العلف : يعني أن من ترك دابة عند أحد ومعها علفها ، وقال له : قدم لها العلف ، فترك تقديمه لها حتى ماتت ، هل يضمن أو لا ؟ والعلف في البيت بسكون الثاني ، وهو تقديم العلف بفتح الثاني .
وقوله :
وكالتي ردت بعيب وعدم
وليها : يعني أن الولي القريب إذا زوج وليته ، وفيها عيب يوجب رد النكاح وسكتت الزوجة ، ولم تبين عيب نفسها وفلس الولي هل يرجع الزوج على الزوجة بالصداق أو لا ؟ فهذه الفروع وما شابهها مبنية على الخلاف في الكف هل هو فعل أو لا ؟ والصحيح أن الكف فعل ، كما دل عليه الكتاب والسنة واللغة ; كما تقدم إيضاحه . وعليه : فالصحيح لزوم الضمان ، فيما ذكر .