قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين . اعلم أن التحقيق الذي دلت عليه القرائن القرآنية واستقراء القرآن أن معنى قوله : إنك لا تسمع الموتى ، لا يصح فيه من أقوال العلماء ، إلا تفسيران : الأول : أن المعنى : إنك لا تسمع الموتى ، أي : لا تسمع الكفار الذين أمات الله قلوبهم ، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه إسماع هدى وانتفاع ; لأن الله كتب عليهم الشقاء ، فختم على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وجعل على قلوبهم الأكنة ، وفي آذانهم الوقر ، [ ص: 125 ] وعلى أبصارهم الغشاوة ، فلا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع . ومن القرائن القرآنية الدالة على ما ذكرنا ، أنه جل وعلا قال بعده : وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع [ 27 \ 81 ] .
فاتضح بهذه القرينة أن المعنى : إنك لا تسمع الموتى ، أي : الكفار الذين هم أشقياء في علم الله إسماع هدى وقبول للحق ، ما تسمع ذلك الإسماع وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم ، فمقابلته جل وعلا بالإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها لمن يؤمن بآياته ، فهو مسلم دليل واضح على أن المراد بالموت في الآية موت الكفر والشقاء ، لا موت مفارقة الروح للبدن ، ولو كان المراد بالموت في قوله : إنك لا تسمع الموتى ، مفارقة الروح للبدن لما قابل قوله : إنك لا تسمع الموتى بقوله : إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا بل لقابله بما يناسبه ، كأن يقال : إن تسمع إلا من لم يمت ، أي : يفارق روحه بدنه ، كما هو واضح .
وإذا علمت أن هذه القرينة القرآنية دلت على أن المراد بالموتى هنا الأشقياء ، الذين لا يسمعون الحق سماع هدى وقبول .
فاعلم أن استقراء القرآن العظيم يدل على هذا المعنى ; كقوله تعالى : إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون [ 6 \ 36 ] وقد أجمع من يعتد به من أهل العلم أن المراد بالموتى في قوله : والموتى يبعثهم الله : الكفار ، ويدل له مقابلة الموتى في قوله : والموتى يبعثهم الله بالذين يسمعون في قوله : إنما يستجيب الذين يسمعون ، ويوضح ذلك قوله تعالى قبله : وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية [ 6 \ 35 ] أي : فافعل ، ثم قال : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين إنما يستجيب الذين يسمعون الآية [ 6 \ 35 - 36 ] وهذا واضح فيما ذكرنا . ولو كان يراد بالموتى من فارقت أرواحهم أبدانهم لقابل الموتى بما يناسبهم ; كأن يقال : إنما يستجيب الأحياء ، أي : الذين لم تفارق أرواحهم أبدانهم ، وكقوله تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون [ 6 \ 122 ] .
[ ص: 126 ] فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أومن كان ميتا ، أي : كافرا فأحييناه ، أي : بالإيمان والهدى ، وهذا لا نزاع فيه ، وفيه إطلاق الموت وإرادة الكفر بلا خلاف ; وكقوله : لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين [ 36 \ 70 ] وكقوله تعالى : وما يستوي الأحياء ولا الأموات [ 35 \ 22 ] أي : لا يستوي المؤمنون والكافرون .
ومن أوضح الأدلة على هذا المعنى ، أن قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى الآية ، وما في معناها من الآيات كلها ، تسلية له - صلى الله عليه وسلم - لأنه يحزنه عدم إيمانهم ، كما بينه تعالى في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون [ 6 \ 33 ] وقوله تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون الآية [ 15 \ 97 ] وقوله : ولا تحزن عليهم الآية [ 16 \ 127 ] وقوله تعالى : فلا تأس على القوم الكافرين [ 5 \ 68 ] وكقوله تعالى : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات الآية [ 35 \ 8 ] وقوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 18 \ 6 ] وقوله تعالى : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 26 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدم إيضاحه . ولما كان يحزنه كفرهم وعدم إيمانهم ، أنزل الله آيات كثيرة تسلية له - صلى الله عليه وسلم - بين له فيها أنه لا قدرة له - صلى الله عليه وسلم - على هدى من أضله الله ، فإن الهدى والإضلال بيده جل وعلا وحده ، وأوضح له أنه نذير ، وقد أتى بما عليه فأنذرهم على أكمل الوجوه وأبلغها ، وأن هداهم وإضلالهم بيد من خلقهم .
ومن الآيات النازلة تسلية له - صلى الله عليه وسلم - ، قوله هنا : إنك لا تسمع الموتى ، أي : لا تسمع من أضله الله إسماع هدى وقبول ، إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا ، يعني : ما تسمع إسماع هدى وقبول إلا من هديناهم للإيمان بآياتنا فهم مسلمون .
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة ; كقوله تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل الآية [ 16 \ 37 ] وقوله تعالى : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ 5 \ 41 ] وقوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء الآية [ 28 \ 56 ] وقوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون [ 10 \ 99 ] إلى غير [ ص: 127 ] ذلك من الآيات . ولو كان معنى الآية وما شابهها : إنك لا تسمع الموتى ، أي : الذين فارقت أرواحهم أبدانهم لما كان في ذلك تسلية له - صلى الله عليه وسلم - كما ترى .
واعلم : أن آية " النمل " هذه جاءت آيتان أخريان بمعناها : الأولى منهما : قوله تعالى في سورة " الروم " : فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون [ 30 \ 52 - 53 ] ولفظ آية " الروم " هذه كلفظ آية " النمل " التي نحن بصددها ، فيكفي في بيان آية " الروم " ، ما ذكرنا في آية " النمل " .
والثانية منهما : قوله تعالى في سورة " فاطر " : إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور [ 35 \ 22 ] وآية " فاطر " هذه كآية " النمل " و " الروم " المتقدمتين ، لأن المراد بقوله فيها : من في القبور الموتى ، فلا فرق بين قوله : إنك لا تسمع الموتى ، وبين قوله : وما أنت بمسمع من في القبور ; لأن المراد بالموتى ومن في القبور واحد ; كقوله تعالى : وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 7 ] أي : يبعث جميع الموتى من قبر منهم ومن لم يقبر ، وقد دلت قرائن قرآنية أيضا على أن معنى آية " فاطر " هذه كمعنى آية " الروم " ، منها قوله تعالى قبلها : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة الآية [ 35 \ 18 ] لأن معناها : لا ينفع إنذارك إلا من هداه الله ووفقه فصار ممن يخشى ربه بالغيب ويقيم الصلاة ، وما أنت بمسمع من في القبور ، أي : الموتى ، أي : الكفار الذين سبق لهم الشقاء كما تقدم . ومنها قوله تعالى أيضا : وما يستوي الأعمى والبصير [ 35 \ 19 ] أي : المؤمن والكافر . وقوله تعالى بعدها : وما يستوي الأحياء ولا الأموات [ 35 \ 22 ] أي : المؤمنون والكفار . ومنها قوله تعالى بعده : إن أنت إلا نذير [ 52 \ 23 ] أي : ليس الإضلال والهدى بيدك ما أنت إلا نذير ، أي : وقد بلغت .
التفسير الثاني : هو أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل ، ولكن المراد بالسماع المنفي في قوله : إنك لا تسمع الموتى خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به ، وأن هذا مثل ضرب للكفار ، والكفار يسمعون الصوت ، لكن لا يسمعون سماع قبول بفقه واتباع ; كما قال تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء [ ص: 128 ] ونداء [ 2 \ 171 ] فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع ، كما لم ينف ذلك عن الكفار ، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذين ينتفعون به ، وأما سماع آخر فلا ، وهذا التفسير الثاني جزم به واقتصر عليه أبو العباس ابن تيمية ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله في هذا المبحث .
وهذا التفسير الأخير دلت عليه أيضا آيات من كتاب الله ، جاء فيها التصريح بالبكم والصمم والعمى مسندا إلى قوم يتكلمون ويسمعون ويبصرون ، والمراد بصممهم صممهم عن سماع ما ينفعهم دون غيره ، فهم يسمعون غيره ، وكذلك في البصر والكلام ، وذلك كقوله تعالى في المنافقين : صم بكم عمي فهم لا يرجعون [ 2 \ 18 ] فقد قال فيهم : صم بكم مع شدة فصاحتهم وحلاوة ألسنتهم ، كما صرح به في قوله تعالى فيهم : وإن يقولوا تسمع لقولهم [ 63 \ 4 ] أي : لفصاحتهم ، وقوله تعالى : فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] فهؤلاء الذين إن يقولوا تسمع لقولهم ، وإذا ذهب الخوف سلقوا المسلمين بألسنة حداد ، هم الذين قال الله فيهم : صم بكم عمي ، وما ذلك إلا أن صممهم وبكمهم وعماهم بالنسبة إلى شيء خاص ، وهو ما ينتفع به من الحق ، فهذا وحده هو الذي صموا عنه فلم يسمعوه ، وبكموا عنه فلم ينطقوا به ، وعموا عنه فلم يروه مع أنهم يسمعون غيره ويبصرونه ، وينطقون به ; كما قال تعالى : وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء الآية [ 46 \ 26 ] وهذا واضح كما ترى .
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح مع شواهده العربية في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة " البقرة " في الكلام على وجه الجمع بين قوله في المنافقين : صم بكم عمي [ 2 \ 18 ] مع قوله فيهم : ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم [ 2 \ 20 ] وقوله فيهم : سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] وقوله فيهم أيضا : وإن يقولوا تسمع لقولهم [ 63 \ 4 ] وقد أوضحنا هناك أن العرب تطلق الصمم وعدم السماع على السماع ، الذي لا فائدة فيه ، وذكرنا بعض الشواهد العربية على ذلك .