الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        37 - الحديث الثاني : عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال : { بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة ، فأجنبت ، فلم أجد الماء ، فتمرغت في الصعيد ، كما تمرغ الدابة ، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فقال : إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا - ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ، ثم مسح الشمال على اليمين ، وظاهر كفيه ووجهه . }

                                        التالي السابق


                                        " عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة أبو اليقظان العنسي - بنون بعد المهملة - أحد السابقين من المهاجرين . وممن عذب في ذات الله تعالى ، قتل - بلا خلاف - بصفين مع علي رضي الله عنهما ، سنة سبع وثلاثين ، والكلام على هذا الحديث من وجوه :

                                        [ ص: 149 ] أحدها : يقال " أجنب " الرجل ، وجنب بالضم ، وجنب بالفتح ، وقد مر .

                                        الثاني : قوله " فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة " كأنه استعمال لقياس لا بد فيه من تقدم العلم بمشروعية التيمم ، وكأنه لما رأى أن الوضوء خاص ببعض الأعضاء وكان بدله - وهو التيمم - خاصا ، وجب أن يكون بدل الغسل الذي يعم جميع البدن عاما لجميع البدن قال أبو محمد بن حزم الظاهري : في هذا الحديث إبطال القياس ; لأن عمارا قدر أن المسكوت عنه من التيمم للجنابة : حكمه حكم الغسل للجنابة ، إذ هو بدل منه ، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، وأعلمه أن لكل شيء حكمه المنصوص عليه فقط . والجواب عما قال : أن الحديث دل على بطلان هذا القياس الخاص ، ولا يلزم من بطلان الخاص بطلان العام . والقائسون لا يعتقدون صحة كل قياس ، ثم في هذا القياس شيء آخر ، وهو أن الأصل - الذي هو الوضوء - قد ألغي فيه مساواة البدل له . فإن التيمم لا يعم جميع أعضاء الوضوء ، فصار مساواة البدل للأصل ملغى في محل النص ، وذلك لا يقتضي المساواة في الفرع . بل لقائل أن يقول : قد يكون الحديث دليلا على صحة أصل القياس ، فإن قوله صلى الله عليه وسلم " إنما كان يكفي كذا وكذا " يدل على أنه لو كان فعله لكفاه . وذلك دليل على صحة قولنا : لو كان فعله لكان مصيبا ، ولو كان فعله لكان قائسا للتيمم للجنابة على التيمم للوضوء ، على تقدير أن يكون " اللمس " المذكور في الآية ليس هو الجماع ; لأنه لو كان عند عمار هو الجماع : لكان حكم التيمم مبينا في الآية . فلم يكن يحتاج إلى أن يتمرغ ، فإذن ، فعله ذلك يتضمن اعتقاد كونه ليس عاملا بالنص ، بل بالقياس . وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان يكفيه التيمم على الصورة المذكورة ، مع ما بينا من كونه : لو فعل ذلك لفعله بالقياس عنده ، لا بالنص .

                                        الثالث : في قوله " أن تقول بيديك هكذا " استعمال القول في معنى الفعل ، وقد قالوا : إن العرب استعملت القول في كل فعل .

                                        [ ص: 150 ] الرابع : قوله " ثم ضرب الأرض بيديه ضربة واحدة " دليل لمن قال بالاكتفاء بضربة واحدة للوجه واليدين ، وإليه يرجع حقيقة مذهب مالك ، فإنه قال : يعيد في الوقت إذا فعل ذلك ، والإعادة في الوقت دليل على إجزاء الفعل إذا وقع ظاهرا ، ومذهب الشافعي : أنه لا بد من ضربتين : ضربة للوجه ، وضربة لليدين ، لحديث ورد فيه " التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين " إلا أنه لا يقاوم هذا الحديث في الصحة ، ولا يعارض مثله بمثله .

                                        الخامس : قوله " ثم مسح الشمال على اليمين ، وظاهر كفيه ووجهه " قدم في اللفظ " مسح اليدين " على " مسح الوجه " لكن بحرف الواو ، وهي لا تقتضي الترتيب ، هذا في هذه الرواية ، وفي غيرها " ثم مسح بوجهه " بلفظة " ثم " وهي تقتضي الترتيب ، فاستدل بذلك على أن ترتيب اليدين على الوجه في الوضوء ليس بواجب ; لأنه إذا ثبت ذلك في التيمم ، ثبت في الوضوء ، إذ لا قائل بالفرق .

                                        السادس : قوله " وظاهر الكفين " يقتضي الاكتفاء بمسح الكفين في التيمم ، وهو مذهب أحمد ، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة : أن التيمم إلى المرفقين وفي حديث أبي الجهيم { أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم على الجدار ، فمسح بوجهه ويديه . } فتنازعوا في أن مطلق لفظ " اليد " هل يدل على الكفين ، أو على الذراعين ، أو على جملة العضو إلى الإبط ؟ فادعى قوم : أنه يحمل على " الكفين " عند الإطلاق ، كما في قوله عز وجل : { فاقطعوا أيديهما } وقد ورد في بعض روايات حديث أبي الجهيم " أنه صلى الله عليه وسلم مسح وجهه وذراعيه " والذي في الصحيح " ويديه " .




                                        الخدمات العلمية