الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        77 - الحديث الثاني - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنما جعل الإمام ليؤتم به . فلا تختلفوا عليه . فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا . وإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد . وإذا سجد فاسجدوا . وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون } .



                                        78 - وما في معناه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك ، صلى جالسا ، وصلى وراءه قوم قياما ، فأشار إليهم : أن اجلسوا لما انصرف قال إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا قال : سمع الله لمن حمده فقولوا : ربنا لك الحمد ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون } . وهذا الحديث الثالث .

                                        [ ص: 226 ]

                                        التالي السابق


                                        [ ص: 226 ] الكلام على حديث أبي هريرة من وجوه :

                                        الأول : اختلفوا في جواز صلاة المفترض خلف المتنفل . فمنعها مالك وأبو حنيفة وغيرهما . واستدل لهم بهذا الحديث . وجعل اختلاف النيات داخلا تحت قوله " فلا تختلفوا عليه " وأجاز ذلك الشافعي وغيره . والحديث محمول في هذا المذهب على الاختلاف في الأفعال الظاهرة .

                                        الثاني : الفاء في قوله " فإذا ركع فاركعوا " إلخ تدل على أن أفعال المأموم تكون بعد أفعال الإمام ; لأن الفاء تقتضي التعقيب . وقد مضى الكلام في المنع من السبق . وقال الفقهاء : المساواة في هذه الأشياء : مكروهة .

                                        الثالث قوله " وإذا قال سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد " يستدل به من يقول إن التسميع مختص بالإمام . فإن قوله " ربنا ولك الحمد " مختص بالمأموم . وهو اختيار مالك رحمه الله .

                                        الرابع : اختلفوا في إثبات الواو وإسقاطها من قوله " ولك الحمد " بحسب اختلاف الروايات وهذا اختلاف في الاختيار ، لا في الجواز . ويرجع إثباتها بأنه يدل على زيادة معنى ; لأنه يكون التقدير : ربنا استجب لنا - أو ما قارب ذلك - ولك الحمد . فيكون الكلام مشتملا على معنى الدعاء ، ومعنى الخبر . وإذا قيل بإسقاط الواو دل على أحد هذين .



                                        الخامس : قوله " وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون " أخذ به قوم ، فأجازوا الجلوس خلف الإمام القاعد للضرورة ، مع قدرة المأمومين على القيام . وكأنهم جعلوا متابعة الإمام عذرا في إسقاط القيام . ومنعه أكثر الفقهاء المشهورين .

                                        والمانعون اختلفوا في الجواب عن هذا الحديث على طرق .

                                        الطريق الأول : ادعاء كونه منسوخا ، وناسخه : صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس في مرض موته قاعدا . وهم قيام ، وأبو بكر قائم يعلمهم بأفعال صلاته . وهذا بناء على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان الإمام ، وأن أبا بكر كان مأموما في تلك الصلاة وقد وقع في ذلك خلاف . وموضع الترجيح : هو الكلام على ذلك الحديث . قال القاضي عياض ، قالوا : ثم نسخت إمامة القاعد جملة بقوله " لا يؤمن أحد بعدي جالسا " وبفعل [ ص: 227 ] الخلفاء بعده ، وأنه لم يؤم أحد منهم جالسا ، وإن كان النسخ لا يمكن بعد النبي صلى الله عليه وسلم . فمثابرتهم على ذلك تشهد بصحة نهيه عن إمامة القاعد بعده ، وتقوي لين هذا الحديث .

                                        وأقول : هذا ضعيف . أما الحديث في { لا يؤمن أحد بعدي جالسا } فحديث رواه الدارقطني عن جابر بن زيد الجعفي - بضم الجيم وسكون العين - عن الشعبي - بفتح الشين - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا يؤمن أحد بعدي جالسا } وهذا مرسل . وجابر بن زيد قالوا فيه : متروك . ورواه مجالد عن الشعبي وقد استضعف مجالد .

                                        وأما الاستدلال بترك الخلفاء الإمامة عن قعود : فأضعف . فإن ترك الشيء لا يدل على تحريمه . فلعلهم اكتفوا بالاستنابة للقادرين ، وإن كان الاتفاق قد حصل على أن صلاة القاعد بالقائم مرجوحة ، وأن الأولى تركها . فذلك كاف في بيان سبب تركهم الإمامة من قعود . وقولهم " إنه يشهد بصحة نهيه عن إمامة القاعد بعده " ليس كذلك ، لما بيناه من أن الترك للفعل لا يدل على تحريمه .

                                        الطريق الثاني : في الجواب عن هذا الحديث : للمانعين ادعاء أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم . وقد عرف أن الأصل عدمه حتى يدل عليه دليل .

                                        الطريق الثالث : التأويل بأن يحمل قوله " وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا " على أنه : إذا كان في حالة الجلوس فاجلسوا ، ولا تخالفوه بالقيام . وكذلك إذا صلى قائما فصلوا قياما . أي إذا كان في حال القيام فقوموا ولا تخالفوه بالقعود . وكذلك في قوله " إذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا " وهذا بعيد . وقد ورد في الأحاديث وطرقها : ما ينفيه ، مثل ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها الآتي " أنه أشار إليهم : أن اجلسوا " ومنه تعليل ذلك بموافقة الأعاجم في القيام على ملوكهم . وسياق الحديث في الجملة يمنع من سبق الفهم إلى هذا التأويل .

                                        والكلام على حديث عائشة مثل الكلام على حديث أبي هريرة ، وما فيه من الزيادة قد حصل التنبيه عليه .




                                        الخدمات العلمية