الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        86 - الحديث الخامس : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : على الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين ، والركبتين ، وأطراف القدمين } .

                                        التالي السابق


                                        الكلام عليه من وجوه :

                                        الأول : أنه صلى الله عليه وسلم سمى كل واحد من هذه الأعضاء عظما باعتبار الجملة ، وإن اشتمل كل واحد منها على عظام ويحتمل أن يكون ذلك من باب تسمية الجملة باسم بعضها .

                                        الثاني : ظاهر الحديث يدل على وجوب السجود على هذه الأعضاء ; لأن الأمر للوجوب . والواجب عند الشافعي منها الجبهة ، لم يتردد قوله فيه . واختلف قوله في اليدين والركبتين والقدمين . وهذا الحديث يدل للوجوب . وقد رجح بعض أصحابه عدم الوجوب . ولم أرهم عارضوا هذا بدليل قوي أقوى من دلالته فإنه استدل لعدم الوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رفاعة { ثم يسجد فيمكن جبهته } وهذا غايته : أن تكون دلالته دلالة مفهوم وهو مفهوم لقب ، أو غاية . والمنطوق الدال على وجوب السجود على هذه الأعضاء : مقدم عليه . وليس هذا من باب تخصيص العموم بالمفهوم ، كما مر لنا في قوله صلى الله عليه وسلم { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } من قوله { جعلت لنا الأرض مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا } فإنه ثمة يعمل بذلك العموم من وجه ، إذا قدمنا دلالة المفهوم . وههنا إذا قدمنا دلالة المفهوم : أسقطنا الدليل الدال على وجوب السجود على هذه الأعضاء - أعني اليدين والركبتين والقدمين - مع تناول اللفظ لها بخصوصها .

                                        وأضعف من هذا : ما استدل به على عدم الوجوب من قوله صلى الله عليه وسلم { سجد [ ص: 242 ] وجهي للذي خلقه } قالوا : فأضاف السجود إلى الوجه . فإنه لا يلزم من إضافة السجود إلى الوجه انحصار السجود فيه . وأضعف من هذا : الاستدلال على عدم الوجوب بأن مسمى السجود يحصل بوضع الجبهة ، فإن هذا الحديث يدل على إثبات زيادة على المسمى ، فلا تترك .

                                        وأضعف من هذا : المعارضة بقياس شبهي ، ليس بقوي ، مثل أن يقال : أعضاء لا يجب كشفها . فلا يجب وضعها كغيرها من الأعضاء ، سوى الجبهة . وقد رجح المحاملي من أصحاب الشافعي القول بالوجوب . وهو أحسن عندنا من قول من رجح عدم الوجوب . وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن سجد على الأنف وحده كفاه ، وهو قول في مذهب مالك وأصحابه . وذهب بعض العلماء إلى أن الواجب السجود على الجبهة والأنف معا . وهو قول في مذهب مالك أيضا . ويحتج لهذا المذهب بحديث ابن عباس هذا . فإن في بعض طرقه { الجبهة والأنف معا } وفي هذه الطريق التي ذكرها المصنف { الجبهة ، وأشار بيده إلى أنفه } فقيل : معنى ذلك : أنهما جعلا كالعضو الواحد ويكون الأنف كالتبع للجبهة .

                                        واستدل على هذا بوجهين :

                                        أحدهما : أنه لو كان كعضو منفرد عن الجبهة حكما ، لكانت الأعضاء المأمور بالسجود عليها ثمانية ، لا سبعة . فلا يطابق العدد المذكور في أول الحديث .

                                        الثاني : أنه قد اختلفت العبارة مع الإشارة إلى الأنف . فإذا جعلا كعضو واحد أمكن أن تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر . فتطابق الإشارة العبارة وربما استنتج من هذا : أنه إذا سجد على الأنف وحده أجزأه ; لأنهما إذا جعلا كعضو واحد كان السجود على الأنف كالسجود على بعض الجبهة فيجزئ .

                                        والحق أن مثل هذا لا يعارض التصريح بذكر الجبهة والأنف ، لكونهما داخلين تحت الأمر ، وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد من حيث العدد المذكور . فذلك في التسمية والعبارة ، لا في الحكم الذي دل عليه الأمر . وأيضا : فإن الإشارة قد لا تعين المشار إليه . فإنها إنما تتعلق بالجبهة . فإذا تقارب ما في الجهة أمكن أن لا يتعين المشار إليه يقينا . وأما اللفظ : فإنه معين لما [ ص: 243 ] وضع له . فتقديمه أولى .

                                        الثالث : المراد باليدين - هاهنا - الكفان . وقد اعتقد قوم أن مطلق لفظ " اليدين " يحمل عليهما ، كما في قوله تعالى { فاقطعوا أيديهما } واستنتجوا من ذلك : أن التيمم إلى الكوعين . وعلى كل تقدير : فسواء صح هذا أم لا ، فالمراد ههنا الكفان ; لأنا لو حملناه على بقية الذراع : لدخل تحت المنهي عنه من افتراش الكلب أو السبع . ثم تصرف الفقهاء بعد ذلك . فقال بعض مصنفي الشافعية : إن المراد الراحة ، أو الأصابع . ولا يشترط الجمع بينهما ، بل يكفي أحدهما . ولو سجد على ظهر الكف لم يجزه . هذا معنى ما قال .



                                        الرابع : قد يستدل بهذا على أنه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء . فإن مسمى السجود يحصل بالوضع . فمن وضعها فقد أتى بما أمر به . فوجب أن يخرج عن العهدة . وهذا يلتفت إلى بحث أصولي . وهو أن الإجزاء في مثل هذا هل هو راجع إلى اللفظ ، أم إلى أن الأصل عدم وجوب الزائد على الملفوظ به ، مضموما إلى فعل المأمور به ؟ .

                                        وحاصله : أن فعل المأمور به : هل هو علة الإجزاء ، أو جزء علة الإجزاء ؟ ولم يختلف في أن كشف الركبتين غير واجب .

                                        وكذلك القدمان . أما الأول : فلما يحذر فيه من كشف العورة . وأما الثاني : وهو عدم كشف القدمين فعليه دليل لطيف جدا ; لأن الشارع وقت المسح على الخف بمدة تقع فيها الصلاة مع الخف . فلو وجب كشف القدمين لوجب نزع الخفين . وانتقضت الطهارة ، وبطلت الصلاة . وهذا باطل . ومن نازع في انتقاض الطهارة بنزع الخف ، فيدل عليه بحديث صفوان الذي فيه { أمرنا أن لا ننزع خفافنا } - إلى آخره " .

                                        فتقول : لو وجب كشف القدمين لناقضه إباحة عدم النزع في هذه المدة التي دل عليها لفظة " أمرنا " المحمولة على الإباحة . وأما اليدان . فللشافعي تردد في وجوب كشفهما .




                                        الخدمات العلمية