الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        95 - الحديث الثالث عشر : عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي العاص بن الربيع بن عبد شمس ، فإذا سجد وضعها ، وإذا قام حملها } .

                                        أبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي - بكسر الراء المهملة وسكون الباء

                                        التالي السابق


                                        [ ص: 255 ] الموحدة وكسر العين المهملة وتشديد الياء - ابن بلدمة - بضم الباء والدال وفتحهما - مات بالمدينة سنة أربع وخمسين . وقيل مات في خلافة علي بالكوفة . وهو ابن سبعين سنة ، ويقال : سنة أربعين . وقيل : إنه كان بدريا . ولا خلاف أنه شهد أحدا وما بعدها . والكلام على هذا الحديث من وجهين :

                                        أحدهما : النظر في هذا الحمل ووجه إباحته .

                                        الثاني : النظر فيما يتعلق بطهارة ثوب الصبية . فأما الأول : فقد تكلموا في تخريجه على وجوه :

                                        أحدها : أن ذلك في النافلة وهو مروي عن مالك . وكأنه لما رأى المسامحة في النافلة قد تقع في بعض الأركان والشرائط ، كان ذلك تأنيسا بالمسامحة في مثل هذا ورد هذا القول بما وقع في بعض الروايات الصحيحة { بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر - أو العصر - خرج علينا حاملا أمامة } - وذكر الحديث .

                                        وظاهره يقتضي : أن ذلك كان في الفريضة ، وإن كان يحتمل أنه في نافلة سابقة على الفريضة . ومما يبعد هذا التأويل : أن الغالب في إمامة النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت في الفرائض دون النوافل . وهذا يتوقف على أن يكون الدليل قائما على كون النبي صلى الله عليه وسلم كان إماما . وقد ورد ذلك مصرحا به في رواية سفيان بن عيينة بسنده إلى { أبي قتادة الأنصاري . قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس ، وأمامة بنت أبي العاص - وهي بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - على عاتقه } الحديث " .

                                        الوجه الثاني : أن هذا الفعل كان للضرورة . وهو مروي أيضا عن مالك وفرق بعض أتباعه بين أن تكون الحاجة شديدة ، بحيث لا يجد من يكفيه أمر الصبي ، ويخشى عليه . فهذا يجوز في النافلة والفريضة . وإن كان حمل الصبي [ ص: 256 ] في الصلاة على معنى الكفاية لأمه ، لشغلها بغير ذلك : لم يصلح إلا في النافلة . وهذا أيضا عليه من الإشكال : أن الأصل استواء الفرض والنفل في الشرائط والأركان إلا ما خصه الدليل .

                                        الوجه الثالث : أن هذا منسوخ . وهو مروي أيضا عن مالك .

                                        قال أبو عمر : ولعل هذا نسخ بتحريم العمل والاشتغال في الصلاة بغيرها . وقد رد هذا بأن قوله صلى الله عليه وسلم { إن في الصلاة لشغلا } كان قبل بدر عند قدوم عبد الله بن مسعود من الحبشة . فإن قدوم زينب وابنتها إلى المدينة كان بعد ذلك ، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان فيه إثبات النسخ بمجرد الاحتمال .

                                        الوجه الرابع : أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم . ذكره القاضي عياض . وقد قيل : هذا مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم إذ لا يؤمن من الطفل البول وغير ذلك على حامله . وقد يعصم منه النبي صلى الله عليه وسلم وتعلم سلامته من ذلك مدة حمله . وهذا الذي ذكره إن كان دليلا على الخصوص فبالنسبة إلى ملابسة الصبية ، مع احتمال خروج النجاسة منها . وليس في ذلك تعرض لأمر الحمل بخصوصه الذي الكلام فيه . ولعل قائل هذا لما أثبت الخصوصية في الحمل بما ذكره - من اختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم بجواز علمه بعصمة الصبية من البول حالة الحمل - تأنس بذلك . فجعله مخصوصا بالعمل الكثير أيضا . فقد يفعلون ذلك في الأبواب التي ظهرت خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم فيها ، ويقولون : خص بكذا في هذا الباب . فيكون هذا مخصوصا . إلا أن هذا ضعيف من وجهين :

                                        أحدهما : أنه لا يلزم من الاختصاص في أمر : الاختصاص في غيره بلا دليل . فلا يدخل القياس في مثل هذا . والأصل عدم التخصيص .

                                        الثاني : أن الذي قرب دعواه الاختصاص لجواز الحمل : هو ما ذكره من جواز اختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم بالعصمة من البول .

                                        وهذا معنى مناسب لاختصاصه بجواز ملابسته للصبية في الصلاة . وهو معدوم فيما نتكلم فيه من أمر الحمل بخصوصه . فالقول بالاختصاص فيه قول بلا علة تناسب الاختصاص .

                                        الوجه الخامس : حمل هذا الفعل على أن تكون أمامة في تعلقها بالرسول صلى الله عليه وسلم وتأنسها به ، كانت تتعلق به بنفسها فيتركها فإذا أراد السجود وضعها : [ ص: 257 ] فإذن الفعل الصادر منه : إنما هو الوضع لا الرفع ، فيقل العمل الذي توهم من الحديث . ولقد وقع لي أن هذا حسن . فإن لفظة " وضع " لا تساوي " حمل " في قضاء فعل الفاعل . فإنا نقول لبعض الحوامل " حمل كذا " وإن لم يكن هو فعل الحمل . ولا يقال " وضع " إلا بفعل حتى نظرت في بعض طرق الحديث الصحيحة . فوجدت فيه " فإذا قام أعادها " وهذا يقتضي الفعل ظاهرا .

                                        الوجه السادس : وهو معتمد بعض مصنفي أصحاب الشافعي ، وهو أن العمل الكثير إنما يفسد إذا وقع متواليا ، وهذه الأفعال قد لا تكون متوالية . فلا تكون مفسدة . والطمأنينة في الأركان - لا سيما في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - تكون فاصلة . ولا شك أن مدة القيام طويلة فاصلة . وهذا الوجه إنما يخرج به إشكال كونه عملا كثيرا ، ولا يتعرض لمطلق الحمل .



                                        وأما الوجه الثاني : وهو النظر إلى الإشكال من حيث الطهارة - فهو يتعلق بمسألة تعارض الأصل والغالب في النجاسات . ورجح هذا الحديث العمل بالأصل وصح في كلام الشافعي إشارة إلى هذا . قال رحمه الله : وثوب أمامة ثوب صبي ويرد على هذا أن هذه حالة فردة .

                                        والثاني يعتادون تنظيف الصبيان في بعض الأوقات ، وتنظيف ثيابهم عن الأقذار . وحكايات الأحوال لا عموم لها ، فيحتمل أن يكون هذا وقع في تلك الحالة التي وقع فيها التنظيف . والله أعلم . وقوله " ولأبي العاص بن الربيع " هذا هو الصحيح في نسبه عند أهل النسب . ووقع في رواية مالك لأبي العاص بن ربيعة " فقال بعضهم : هو جد له . وهو أبو العاص بن الربيع بن ربيعة ، فنسب في رواية مالك إلى جده . وهذا ليس بمعروف . ومنهم من استدل بالحديث على أن لمس المحارم أو من لا يشتهى : غير ناقض للطهارة وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون من وراء حائل ، وهذا يستمد مما ذكرناه من أن حكايات الحال لا عموم لها .




                                        الخدمات العلمية