فصل : الرد على أبي حنيفة
ومن الدليل على أبي حنيفة ما رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن سليط بن أيوب عن عبيد الله بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له إنك [ ص: 331 ] تتوضأ من بئر بضاعة ، وهي يطرح فيها المحائض ولحوم الكلاب ، وما ينجي الناس . فقال : " " الماء لا ينجسه شيء فلم يجعل لاختلاط النجاسة بالماء تأثيرا في نجاسته وهذا نص يدفع قول أبي حنيفة .
اعترضوا على هذا الحديث بسؤالين :
أحدهما : أن بئر بضاعة عين جارية إلى بساتين تشرب منها والماء الجاري لا يثبت فيه نجاسة .
والجواب عنه أن بئر بضاعة أشهر حالا من أن يعترض عليها لهذا السؤال ، وهي بئر في بني ساعدة ، قال أبو داود في سننه : قدرت أنا بئر بضاعة بردائي أي : مدرته عليها ثم ذرعته ، فإذا عرضها ستة أذرع . وسألت الذي فتح لي البستان فأدخلني إليه : هل غير بناؤها عما كانت عليه : فقال : لا ، ورأيت فيها ماء متغير اللون .
ومعلوم أن الماء الجاري ، لا يبقى فيه التغيير ، قال أبو داود : وسمعت قتيبة بن سعيد قال سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها ، قال : أكثر ما يكون فيها الماء قال إلى العانة قلت : وإذا نقص ، قال : دون العورة .
والسؤال الثاني : إن قالوا لا يجوز أن يضاف إلى الصحابة أن يلقوا في بئر يتوضأ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم المحائض ولحوم الكلاب بل ذلك مستحيل ، وهو بصيانة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أولى فدل على وهاء الحديث .
والجواب عنه أن الصحابة رضي الله عنهم لا يصح إضافة ذلك إليهم ولا روينا أنهم فعلوه ، وإنما كانتبئر بضاعة بقرب من مكان الجيف والمحائض ، وملقى الأنجاس ، وكانت تهب الريح ، فكانت الريح تلقي المحائض والأنجاس فيها ، ثم الدليل عليه من طريق المعنى أنه ماء كثير ، فوجب أن لا ينجس بوقوع نجاسة لم تغيره قياسا على وقوع البعرة اليابسة فيه .
فإن قيل البعرة اليابسة لم تخالطه قيل الاعتبار بوقوع النجاسة لا بمخالطتها ، ألا ترى أن شعر الخنزير وعظمه ينجس الماء إذا وقع فيه ، وإن لم يخالطه ، ولأن ما لا يمكن حفظه من حلول النجاسة فيه فوجب أن لا ينجس إلا بالتغيير قياسا على ما لا يلتقي طرفاه من بئر أو غدير ، ولأن الماء الكثير لا يمكن حفظه بالأوعية ، ولا يقدر على صونه من النجاسة ، فصار التحرز من حلول النجاسة فيه شاقا فعفي عنه كدم البراغيث ، والماء القليل يمكن حفظه بالأوعية ، ويقدر على صونه من النجاسة فصار التحرز من حلول النجاسة فيه ممكنا فلم يعف [ ص: 332 ] عنه كسائر الأنجاس ، ولأن مذهبهم يفضي إلى ما يدفعه المعقول من تنجيس الماء الكثير ، [ إذا ضاق مكانه ] وتطهير القليل إذا اتسع مكانه وكثير الماء أدفع للنجاسة من قليله .