فصل
ومنها : أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم ، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني ، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها ، وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية;
nindex.php?page=treesubj&link=20830فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد ، والمعنى هو المقصود ، ولا أيضا كل المعاني ، فإن
[ ص: 139 ] المعنى الإفرادي قد يعبأ به ، إذا كان المعنى التركيبي مفهوما دونه ، كما لم يعبأ ذو الرمة " ببائس " ولا " يابس " اتكالا منه على أن حاصل المعنى مفهوم .
وأبين من هذا ما في " جامع
الإسماعيلي المخرج على صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري " عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك; أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ :
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=31وفاكهة وأبا [ عبس : 31 ] ، قال : ما الأب ؟ ثم قال : ما كلفنا هذا ، أو قال : ما أمرنا بهذا .
وفيه أيضا عن
أنس ; أن رجلا سأل
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب عن قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=31وفاكهة وأبا [ عبس : 31 ] : ما الأب ؟ فقال
عمر :
nindex.php?page=treesubj&link=32219نهينا عن التعمق والتكلف .
ومن المشهور تأديبه
لصبيغ حين كان يكثر السؤال عن " المرسلات [ المرسلات : 1 ] " و " العاصفات " [ المرسلات : 2 ] ونحوهما .
وظاهر هذا كله أنه إنما نهى عنه; لأن المعنى التركيبي معلوم على الجملة ، ولا ينبني على فهم هذه الأشياء حكم تكليفي ، فرأى أن الاشتغال به عن غيره مما هو أهم منه تكلف ، ولهذا أصل في الشريعة صحيح; نبه عليه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=177ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب [ البقرة : 177 ] إلى آخر الآية ، فلو كان فهم اللفظ الإفرادي يتوقف عليه فهم التركيبي; لم يكن تكلفا ، بل هو مضطر إليه ، كما روي عن
عمر نفسه في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=47أو يأخذهم على تخوف [ النحل : 47 ] فإنه سئل عنه على المنبر ، فقال له رجل من
هذيل : التخوف عندنا التنقص ، ثم أنشده :
[ ص: 140 ] تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن
.
فقال
عمر : أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم ، فإن فيه تفسير كتابكم ، فليس بين الخبرين تعارض; لأن هذا قد توقف فهم معنى الآية عليه ، بخلاف الأول ، فإذا كان الأمر هكذا ، فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب; لأنه المقصود والمراد وعليه ينبني الخطاب ابتداء ، وكثيرا ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة ، فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي ، فتستبهم على الملتمس ، وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب ، فيكون عمله في غير معمل ، ومشيه على غير طريق ، والله الواقي برحمته .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الِاعْتِنَاءُ بِالْمَعَانِي الْمَبْثُوثَةِ فِي الْخِطَابِ هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا كَانَتْ عِنَايَتُهَا بِالْمَعَانِي ، وَإِنَّمَا أَصْلَحَتِ الْأَلْفَاظَ مِنْ أَجْلِهَا ، وَهَذَا الْأَصْلُ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ;
nindex.php?page=treesubj&link=20830فَاللَّفْظُ إِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَلَا أَيْضًا كُلُّ الْمَعَانِي ، فَإِنَّ
[ ص: 139 ] الْمَعْنَى الْإِفْرَادِيَّ قَدْ يُعْبَأُ بِهِ ، إِذَا كَانَ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيُّ مَفْهُومًا دُونَهُ ، كَمَا لَمْ يَعْبَأْ ذُو الرُّمَّةِ " بِبَائِسٍ " وَلَا " يَابِسٍ " اتِّكَالًا مِنْهُ عَلَى أَنَّ حَاصِلَ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ .
وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا مَا فِي " جَامِعِ
الْإِسْمَاعِيلِيِّ الْمُخَرَّجِ عَلَى صَحِيحِ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ " عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=9أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ; أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=31وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [ عَبَسَ : 31 ] ، قَالَ : مَا الْأَبُّ ؟ ثُمَّ قَالَ : مَا كُلِّفْنَا هَذَا ، أَوْ قَالَ : مَا أُمِرْنَا بِهَذَا .
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ
أَنَسٍ ; أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=31وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [ عَبَسَ : 31 ] : مَا الْأَبُّ ؟ فَقَالَ
عُمَرُ :
nindex.php?page=treesubj&link=32219نُهِينَا عَنِ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ .
وَمِنَ الْمَشْهُورِ تَأْدِيبُهُ
لِصَبِيغٍ حِينَ كَانَ يُكْثِرُ السُّؤَالَ عَنِ " الْمُرْسَلَاتِ [ الْمُرْسَلَاتِ : 1 ] " وَ " الْعَاصِفَاتِ " [ الْمُرْسَلَاتِ : 2 ] وَنَحْوِهِمَا .
وَظَاهِرُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْهُ; لِأَنَّ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيَّ مَعْلُومٌ عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَلَا يَنْبَنِي عَلَى فَهْمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ ، فَرَأَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ تَكَلُّفٌ ، وَلِهَذَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ صَحِيحٌ; نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=177لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [ الْبَقَرَةِ : 177 ] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ، فَلَوْ كَانَ فَهْمُ اللَّفْظِ الْإِفْرَادِيِّ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهْمُ التَّرْكِيبِيِّ; لَمْ يَكُنْ تَكُلُّفًا ، بَلْ هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ
عُمَرَ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=47أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ [ النَّحْلِ : 47 ] فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ
هُذَيْلٍ : التَّخَوُّفُ عِنْدَنَا التَّنَقُّصُ ، ثُمَّ أَنْشَدَهُ :
[ ص: 140 ] تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
.
فَقَالَ
عُمَرُ : أَيُّهَا النَّاسُ تَمَسَّكُوا بِدِيوَانِ شِعْرِكُمْ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ ، فَإِنَّ فِيهِ تَفْسِيرَ كِتَابِكُمْ ، فَلَيْسَ بَيْنَ الْخِبْرَيْنِ تَعَارُضٌ; لِأَنَّ هَذَا قَدْ تَوَقَّفَ فَهْمُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا ، فَاللَّازِمُ الِاعْتِنَاءُ بِفَهْمِ مَعْنَى الْخِطَابِ; لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَالْمُرَادُ وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي الْخِطَابُ ابْتِدَاءً ، وَكَثِيرًا مَا يُغْفَلُ هَذَا النَّظَرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَتُلْتَمَسُ غَرَائِبُهُ وَمَعَانِيهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي ، فَتَسْتَبْهِمُ عَلَى الْمُلْتَمِسِ ، وَتَسْتَعْجِمُ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَقَاصِدَ الْعَرَبِ ، فَيَكُونُ عَمَلُهُ فِي غَيْرِ مَعْمَلٍ ، وَمَشْيُهُ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ ، وَاللَّهُ الْوَاقِي بِرَحْمَتِهِ .