الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 54 ] المسألة السادسة

              لما كانت المصالح والمفاسد على ضربين : دنيوية ، وأخروية ، وتقدم الكلام على الدنيوية ، اقتضى الحال الكلام في المصالح والمفاسد الأخروية ، فنقول : إنها على ضربين :

              أحدهما : أن تكون خالصة لا امتزاج لأحد القبيلين بالآخر; كنعيم أهل الجنان ، وعذاب أهل الخلود في النيران ، أعاذنا الله من النار ، وأدخلنا الجنة برحمته .

              والثاني : أن تكون ممتزجة ، وليس ذلك إلا بالنسبة إلى من يدخل النار من الموحدين ، في حال كونه في النار خاصة ، فإذا أدخل الجنة برحمة الله رجع إلى القسم الأول ، وهذا كله حسب ما جاء في الشريعة; إذ ليس للعقل في الأمور الأخروية مجال ، وإنما تتلقى أحكامها من السمع .

              أما كون هذا القسم الثاني ممتزجا فظاهر; لأن النار لا تنال منهم مواضع السجود ، ولا محل الإيمان ، وتلك مصلحة ظاهرة .

              [ ص: 55 ] وأيضا فإنما تأخذهم على قدر أعمالهم ، وأعمالهم لم تتمحض للشر خاصة; فلا تأخذهم النار أخذ من لا خير في عمله على حال ، وهذا كاف في حصول المصلحة الناشئة عن الإيمان والأعمال الصالحة ، ثم الرجاء المعلق بقلب المؤمن راحة ما ، حاصلة له مع التعذيب ، فهي تنفس عنه من كرب النار ، إلى غير ذلك من الأمور الجزئية الآتية في الشريعة ، من استقراها ألفاها .

              وأما كون الأول محضا; فيدل عليه من الشريعة أدلة كثيرة; كقوله تعالى : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ الزخرف : 75 ] .

              وقوله : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار [ الحج : 19 ] الآية .

              وقوله : لا يموت فيها ولا يحيا [ طه : 74 ] .

              وهو أشد ما هنالك ، إلى سائر ما يدل على الإبعاد من الرحمة .

              وفي الجنة آيات أخر وأحاديث تدل على أن لا عذاب ولا مشقة ولا [ ص: 56 ] مفسدة; كقوله : إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين إلى قوله : لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين [ الحجر : 45 - 48 ] .

              وقوله : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ الزمر : 73 ] .

              إلى غير ذلك مما هو معلوم .

              وقد بين ذلك ربنا بقوله في الجنة : " أنت رحمتي " ، وفي النار : " أنت عذابي " ; فسمى هذه بالرحمة مبالغة ، وهذه بالعذاب مبالغة .

              فإن قيل : كيف يستقيم هذا وقد ثبت أن في النار دركات بعضها أشد من بعض ، كما أنه جاء في الجنة أن فيها درجات بعضها فوق بعض ، وجاء في بعض أهل النار أنه في ضحضاح مع أنه من المخلدين ، وجاء أن في الجنة من يحرم بعض نعيمها; كالذي يموت مدمن خمر ولم يتب منها ، وإذا كانت [ ص: 57 ] دركات الجحيم - أعاذنا الله منها - بعضها أشد; فالذي دون الأشد أخف من الأشد ، والخفة مما يقتضيه وصف الرحمة التي تحصل مصلحة ما .

              وأيضا; فالقدر الذي وصل إليه العذاب بالنسبة إلى ما يتوهم فوقه خفيف ، كما أنه شديد بالنسبة إلى ما هو دونه ، وإذا تصورت الخفة - ولو بنسبة ما - فهي مصلحة في ضمن مفسدة العذاب ، كما أن درجات الجنة كذلك في الطرف الآخر; فإن الجزاء على قدر العمل ، وإذا كان عمل الطاعة قليلا بسبب كثرة المخالفة ، كان الجزاء على تلك النسبة ، ومعلوم أن رتبة آخر من يدخل الجنة ليست كرتبة من لم يعص الله قط ودأب على الطاعات عمره ، وإنما ذلك لأجل عمل الأول السببي ، فكان جزاؤه على الطاعة في الآخرة نعيما كدره عليه كثرة المخالفة ، وهذا معنى ممازجة المفسدة ، فإذا كان كذلك فالقسمان معا قسم واحد .

              فالجواب أنه لا يصح في المنقول ألبتة أن تكون الجنة ممتزجة النعيم بالعذاب ، ولا أن فيها مفسدة ما بوجه من الوجوه ، هذا مقتضى نقل الشريعة ، نعم العقل لا يحيل ذلك; فإن أحوال الآخرة ليست جارية على مقتضيات العقول ، كما أنه لا يصح أن يقال في النار إن فيها للمخلدين رحمة تقتضي مصلحة ما ، ولذلك قال تعالى : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ الزخرف : 75 ] [ ص: 58 ] فلا حالة هنالك يستريحون إليها وإن قلت ، كيف وهي دار العذاب ؟ ! عياذا بالله منها .

              وما جاء في حرمان الخمر; فذلك راجع إلى معنى المراتب ، فلا يجد من يحرمها ألما بفقدها ، كما لا يجد الجميع ألما بفقد شهوة الولد ، أما المخرج إلى الضحضاح; فأمر خاص ، كشهادة خزيمة ، وعناق أبي بردة ، ولا نقض بمثل ذلك على الأصول الاستقرائية القطعية; غير أنه يجب النظر هنا في وجه تفاوت الدرجات والدركات ، لما ينبني على ذلك من الفوائد الفقهية لا من جهة أخرى .

              وذلك أن المراتب - وإن تفاوتت - لا يلزم من تفاوتها نقيض ولا ضد ، ومعنى هذا أنك إذا قلت : فلان عالم فقد وصفته بالعلم وأطلقت ذلك عليه إطلاقا بحيث لا يستراب في حصول ذلك الوصف له على كماله ، فإذا قلت : وفلان فوقه في العلم ، فهذا الكلام يقتضي أن الثاني حاز رتبة في العلم فوق رتبة الأول ، ولا يقتضي أن الأول متصف بالجهل ، ولو على وجه ما ، فكذلك إذا قلت : مرتبة الأنبياء في الجنة فوق مرتبة العلماء ، فلا يقتضي ذلك للعلماء نقصا من النعيم ، ولا غضا من المرتبة ، بحيث يداخله ضده ، بل العلماء منعمون نعيما لا نقص فيه والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فوق ذلك في النعيم الذي [ ص: 59 ] لا نقص فيه ، وكذلك القول في العذاب بالنسبة إلى المنافقين وغيرهم . كل في العذاب لا يداخله راحة ، ولكن بعضهم أشد عذابا من بعض .

              ولأجل ذلك لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن خير دور الأنصار; أجاب بما عليه الأمر في ترتيبهم في الخيرية بقوله : خير دور الأنصار بنو النجار ، ثم بنو عبد الأشهل ، ثم بنو الحارث بن الخزرج ، ثم بنو ساعدة ، ثم قال : وفي كل دور الأنصار خير رفعا لتوهم الضد ، من حيث كانت أفعل التفصيل قد تستعمل [ ص: 60 ] على ذلك الوجه ، كقوله تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ الأعلى : 16 ] ، ونحو ذلك ، فلم يكن تفضيله عليه الصلاة والسلام بعض دور الأنصار على بعض تنقيصا بالمفضول ، ولو قصد ذلك; لكان أقرب إلى الذم منه إلى المدح ، وقد بين الحديث هذا المعنى المقرر فإن في آخره : فلحقنا سعد بن عبادة ، فقال : ألم تر أن نبي الله خير الأنصار; فجعلنا أخيرا ؟ فقال : " أوليس بحسبكم أن تكونوا من الأخيار ؟ " لكن التقديم في الترتيب يقتضي رفع المزية ، ولا يقتضي اتصاف المؤخر بالضد لا قليلا ولا كثيرا ، وكذلك يجري حكم التفضيل بين الأشخاص ، وبين الأنواع ، وبين الصفات ، وقد قال الله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [ البقرة : 253 ] .

              [ ص: 61 ] ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض [ الإسراء : 55 ] .

              وفي الحديث : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير .

              وحاصل هذا أن ترتيب أشخاص النوع الواحد بالنسبة إلى حقيقة النوع لا يمكن ، وإنما يكون بالنسبة إلى ما يمتاز به بعض الأشخاص من الخواص والأوصاف الخارجة عن حقيقة ذلك النوع ، وهذا معنى حسن جدا ، من تحققه هانت عليه معضلات ومشكلات في فهم الشريعة; كالتفضيل بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وزيادة الإيمان ونقصانه ، وغير ذلك من الفروع الفقهية والمعاني الشرعية ، التي زلت بسبب الجهل بها أقدام كثير من الناس ، وبالله التوفيق .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية