الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              ما تقدم ذكره إنما هو فيما كان من الأعمال يتسبب عنه مشقة وهو من [ ص: 256 ] المأذون فيه ، فإن كان غير مأذون فيه وتسبب عنه مشقة فادحة; فهو أظهر في المنع من ذلك التسبب; لأنه زاد على ارتكاب النهي إدخال العنت والحرج على نفسه .

              إلا أنه قد يكون في الشرع سببا لأمر شاق على المكلف ، ولكن لا يكون قصد من الشارع لإدخال المشقة عليه ، وإنما قصد الشارع جلب مصلحة أو درء مفسدة; كالقصاص ، والعقوبات الناشئة عن الأعمال الممنوعة; فإنها زجر للفاعل ، وكف له عن مواقعة مثل ذلك الفعل ، وعظة لغيره أن يقع في مثله أيضا ، وكون هذا الجزاء مؤلما وشاقا مضاه لكون قطع اليد المتأكلة ، وشرب الدواء البشيع مؤلما وشاقا ، فكما لا يقال للطبيب : إنه قاصد للإيلام بتلك الأفعال ، فكذلك هنا ، فإن الشارع هو الطبيب الأعظم .

              والأدلة المتقدمة في أن الله لم يجعل في الدين من حرج ولا يريد جعله فيه ، ويشبه هذا ما في الحديث من قوله : ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته ، ولا بد له من الموت ; لأن الموت لما كان حتما على المؤمن ، وطريقا إلى وصوله إلى ربه ، وتمتعه بقربه في دار القرار ، صار في القصد إليه معتبرا ، وصار من جهة المساءة فيه مكروها ، وقد يكون لاحقا بهذا المعنى النذور التي يشق على الإنسان [ ص: 257 ] الوفاء بها; لأن المكلف لما أريح من مقتضياتها كان التزامها مكروها ، فإذا وقع وجب الوفاء بها من حيث هي عبادات وإن شقت ، كما لزمت العقوبات بناء على التسبب فيها ، حتى إذا كانت النذور فيما ليس بعبادة ، أو كانت في عبادة لا تطاق وشرعت لها تخفيفات ، أو كانت مصادمة لأمر ضروري أو حاجي في الدين سقطت ، كما إذا حلف بصدقة ماله ، فإنه يجزئه الثلث ، أو نذر المشي إلى مكة راجلا فلم يقدر ، فإنه يركب ويهدي ، أو كما إذا نذر أن لا يتزوج ، أو لا يأكل الطعام ، فإنه يسقط حكمه إلى أشباه ذلك; فانظر كيف صحبه الرفق الشرعي فيما أدخل نفسه فيه من المشقات .

              فعلى هذا كون الشارع لا يقصد إدخال المشقة على المكلف عام في المأمورات والمنهيات .

              ولا يقال : إنه قد جاء في القرآن : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [ البقرة : 194 ] ، فسمي الجزاء اعتداء ، وذلك يقتضي القصد إلى الاعتداء ، ومدلوله المشقة الداخلة على المعتدي .

              لأنا نقول : تسمية الجزاء المرتب على الاعتداء اعتداء مجازا معروف مثله في كلام العرب ، وفي الشريعة من هذا كثير; كقوله تعالى : الله يستهزئ بهم [ البقرة : 15 ] .

              [ ص: 258 ] [ ص: 259 ] [ ص: 260 ] ومكروا ومكر الله [ آل عمران : 54 ] .

              إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا [ الطارق : 15 - 16 ] .

              إلى أشباه ذلك ، فلا اعتراض بمثل ذلك .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية