[ ص: 141 ] فصل
ومنها : أن تكون
nindex.php?page=treesubj&link=20715التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها ، ليسعه الدخول تحت حكمها .
أما الاعتقادية - بأن تكون من القرب للفهم ، والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور ، من كان منهم ثاقب الفهم أو بليدا ، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة ، ولم تكن أمية ، وقد ثبت كونها كذلك ، فلا بد أن تكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ .
وأيضا; فلو لم تكن كذلك لزم بالنسبة إلى الجمهور تكليف ما لا يطاق ، وهو غير واقع كما هو مذكور في الأصول ، ولذلك تجد الشريعة لم تعرف من الأمور الإلهية إلا بما يسع فهمه ، وأرجت غير ذلك ، فعرفته بمقتضى الأسماء والصفات ، وحضت على النظر في المخلوقات إلى أشباه ذلك ، وأحالت فيما يقع فيه الاشتباه على قاعدة عامة ، وهو قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] ، وسكتت عن أشياء لا تهتدي إليها العقول ، نعم ، لا ينكر
[ ص: 142 ] تفاضل الإدراكات على الجملة ، وإنما النظر في القدر المكلف به .
ومما يدل على ذلك أيضا أن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يبلغنا عنهم من الخوض في هذه الأمور ما يكون أصلا للباحثين والمتكلفين ، كما لم يأت ذلك عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام ، وكذلك التابعون المقتدى بهم لم يكونوا إلا على ما كان عليه الصحابة ، بل الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه النهي عن
nindex.php?page=treesubj&link=19779الخوض في الأمور الإلهية وغيرها; حتى قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337478لن يبرح الناس يتساءلون ، حتى يقولوا : هذا الله خالق كل شيء ، فمن خلق الله ؟ .
وثبت
nindex.php?page=treesubj&link=32220النهي عن كثرة السؤال ، وعن تكلف ما لا يعني عاما في الاعتقاديات والعمليات ، وأخبر
مالك أن من تقدم كانوا يكرهون الكلام إلا فيما تحته عمل ، وإنما يريد ما كان من الأشياء التي لا تهتدي العقول لفهمها مما
[ ص: 143 ] سكت عنه ، أو مما وقع نادرا من المتشابهات محالا به على آية التنزيه .
وعلى هذا; فالتعمق في البحث فيها وتطلب ما لا يشترك الجمهور في فهمه خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية; فإنه ربما جمحت النفس إلى طلب ما لا يطلب منها; فوقعت في ظلمة لا انفكاك لها منها ، ولله در القائل :
وللعقول قوى تستن دون مدى إن تعدها ظهرت فيها اضطرابات
.
ومن طماح النفوس إلى ما لم تكلف به نشأت الفرق كلها أو أكثرها .
وأما العمليات ; فمن مراعاة الأمية فيها أن وقع تكليفهم بالجلائل في الأعمال والتقريبات في الأمور ، بحيث يدركها الجمهور كما عرف أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم; كتعريفها بالظلال ، وطلوع الفجر والشمس ، وغروبها وغروب الشفق ، وكذلك في الصيام في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=187حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود [ البقرة : 187 ] ولما كان فيهم من حمل العبارة على حقيقتها; نزل :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=187من الفجر .
وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337479إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا ، وغربت الشمس; فقد أفطر الصائم .
[ ص: 144 ] وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337480nindex.php?page=treesubj&link=32201نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب ، الشهر هكذا وهكذا .
وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337481لا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم; فأكملوا العدة ثلاثين .
ولم يطالبنا بحساب مسير الشمس مع القمر في المنازل; لأن ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومها ، ولدقة الأمر فيه ، وصعوبة الطريق إليه ، وأجرى لنا غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين ، وعذر الجاهل فرفع
[ ص: 145 ] عنه الإثم ، وعفا عن الخطأ ، إلى غير ذلك من الأمور المشتركة للجمهور ، فلا يصح الخروج عما حد في الشريعة ، ولا تطلب ما وراء هذه الغاية ، فإنها مظنة الضلال ، ومزلة الأقدام .
فإن قيل : هذا مخالف لما نقل عنهم من تدقيق النظر في مواقع الأحكام ، ومظان الشبهات ، ومجاري الرياء ، والتصنع للناس ، ومبالغتهم في التحرز من الأمور المهلكات - التي هي عند الجمهور من الدقائق - التي لا يهتدي إلى فهمها والوقوف عليها إلا الخواص ، وقد كانت عندهم عظائم ، وهي مما لا يصل إليها الجمهور .
وأيضا لو كانت كذلك لم يكن للعلماء مزية على سائر الناس ، وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم خاصة وعامة ، وكان للخاصة من الفهم في الشريعة ما لم يكن للعامة ، وإن كان الجميع عربا وأمة أمية ، وهكذا سائر القرون إلى اليوم ، فكيف هذا ؟
وأيضا; فإن
nindex.php?page=treesubj&link=28640الشريعة قد اشتملت على ما تعرفه العرب عامة ، وما يعرفه العلماء خاصة ، وما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وذلك المتشابهات فهي شاملة لما يوصل إلى فهمه على الإطلاق ، وما لا يوصل إليه على الإطلاق ، وما يصل إليه البعض دون البعض ، فأين الاختصاص بما يليق بالجمهور خاصة ؟
فالجواب أن يقال : أما المتشابهات; فإنها من قبيل غير ما نحن فيه لأنها إما راجعة إلى أمور إلهية لم يفتح الشارع لفهمها بابا غير التسليم والدخول تحت
[ ص: 146 ] آية التنزيه ، وإما راجعة إلى قواعد شرعية; فتتعارض أحكامها ، وهذا خاص مبني على عام هو ما نحن فيه ، وذلك أن هذه الأمور كلها يجاب عنها بأوجه :
أحدها : أنها أمور إضافية لم يتعبد بها أول الأمر للأدلة المتقدمة ، وإنما هي أمور تعرض لمن تمرن في علم الشريعة وزاول أحكام التكليف ، وامتاز عن الجمهور بمزيد فهم فيها ، حتى زايل الأمية من وجه ، فصار تدقيقه في الأمور الجليلة بالنسبة إلى غيره ممن لم يبلغ درجته ، فنسبته إلى ما فهمه ، نسبة العامي إلى ما فهمه ، والنسبة إذا كانت محفوظة ، فلا يبقى تعارض بين ما تقدم ، وما ذكر في السؤال .
والثاني : أن الله تعالى جعل أهل الشريعة على مراتب ليسوا فيها على وزان واحد ، ورفع بعضهم فوق بعض ، كما أنهم في الدنيا كذلك ، فليس من له مزيد في فهم الشريعة ، كمن لا مزيد له ، لكن الجميع جار على أمر مشترك .
والاختصاصات فيها هبات من الله لا تخرج أهلها عن حكم الاشتراك ، بل يدخلون مع غيرهم فيها ، ويمتازون هم بزيادات في ذلك الأمر المشترك
[ ص: 147 ] بعينه ، فإن امتازوا بمزيد الفهم لم يخرجهم ذلك عن حكم الاشتراك ، فإن ذلك المزيد أصله الأمر المشترك .
كما نقول : إن
nindex.php?page=treesubj&link=18601الورع مطلوب من كل أحد على الجملة ، ومع ذلك فمنه ما هو من الجلائل ، كالورع عن الحرام البين والمكروه البين ، ومنه ما ليس من الجلائل عند قوم ، وهو منها عند قوم آخرين ، فصار الذين عدوه من الجلائل داخلين في القسم الأول على الجملة ، وإن كانوا قد امتازوا عنهم بالورع عن بعض ما لا يتورع عنه القسم الأول ، بناء على الشهادة بكون الموضع متأكدا لبيانه أو غير متأكد لدقته ، وهكذا سائر المسائل التي يمتاز بها الخواص عن العوام لا تخرج عن هذا القانون; فقد بان أن الجميع جارون على حكم أمر مشترك مفهوم للجمهور على الجملة .
والثالث : أن
nindex.php?page=treesubj&link=28640ما فيه التفاوت إنما تجده في الغالب في الأمور المطلقة في الشريعة التي لم يوضع لها حد يوقف عنده ، بل وكلت إلى نظر المكلف ، فصار كل أحد فيها مطلوبا بإدراكه ، فمن مدرك فيها أمرا قريبا ، فهو المطلوب منه ، ومن مدرك فيها أمرا هو فوق الأول ، فهو المطلوب منه ، وربما تفاوت
[ ص: 148 ] الأمر فيها بحسب قدرة المكلف على الدوام فيما دخل فيه وعدم قدرته ، فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه لم يؤمر بها ، بل بما هو دونها ، ومن كان قادرا على ذلك كان مطلوبا ، وعلى هذا السبيل يعتبر ما جاء مما يظن أنه مخالف لما تقدم ، والله أعلم .
فلهذا المعنى بعينه وضعت العمليات على وجه لا تخرج المكلف إلى مشقة يمل بسببها ، أو إلى تعطيل عاداته التي يقوم بها صلاح دنياه ، ويتوسع بسببها في نيل حظوظه ، وذلك أن الأمي الذي لم يزاول شيئا من الأمور الشرعية ولا العقلية - وربما اشمأز قلبه عما يخرجه عن معتاده - بخلاف من كان له بذلك عهد ، ومن هنا
nindex.php?page=treesubj&link=28864كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة ، ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا ، ولم تنزل دفعة واحدة ، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة ، وفيما يحكى عن
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز أن ابنه
عبد الملك ، قال له : " ما لك لا تنفذ الأمور ؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق " . قال له
عمر : " لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين ، وحرمها في الثالثة ، وإنى أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة ، فيدفعوه جملة ، ويكون من ذا فتنة " .
[ ص: 149 ] وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادي; فكان ما كان أجرى بالمصلحة وأجرى على جهة التأنيس ، وكان أكثرها على أسباب واقعة; فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع ، وكانت أقرب فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع ، وكانت أقرب إلى التأنيس حين كانت تنزل حكما حكما وجزئية جزئية ، لأنها إذا نزلت كذلك لم ينزل حكم إلا والذي قبله قد صار عادة ، واستأنست به نفس المكلف الصائم عن التكليف ، وعن العلم به رأسا ، فإذا نزل الثاني كانت النفس أقرب للانقياد له ، ثم كذلك في الثالث والرابع .
ولذلك أونسوا في الابتداء بأن هذه الملة ملة
إبراهيم عليه السلام ، كما يؤنس الطفل في العمل بأنه من عمل أبيه ، يقول تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78ملة أبيكم إبراهيم [ الحج : 78 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=123ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين [ النحل : 123 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=68إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه [ آل عمران : 68 ] .
إلى غير ذلك من الآيات ، فلو نزلت دفعة واحدة لتكاثرت التكاليف على المكلف; فلم يكن لينقاد إليها انقياده إلى الحكم الواحد أو الاثنين .
[ ص: 150 ] وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337482الخير عادة وإذا اعتادت النفس فعلا ما من أفعال الخير حصل له به نور في قلبه ، وانشرح به صدره; فلا يأتي فعل ثان إلا وفي النفس له القبول ، هذا في عادة الله في أهل الطاعة ، وعادة أخرى جارية في الناس أن النفس أقرب انقيادا إلى فعل يكون عندها فعل آخر من نوعه ، ومن هنا كان عليه الصلاة والسلام يكره أضداد هذا ويحب ما يلائمه ، فكان
nindex.php?page=treesubj&link=20056يحب الرفق ويكره العنف ، وينهى عن التعمق والتكلف والدخول تحت ما لا يطاق حمله; لأن هذا كله أقرب إلى الانقياد ، وأسهل في التشريع للجمهور .
[ ص: 141 ] فَصْلٌ
وَمِنْهَا : أَنْ تَكُونَ
nindex.php?page=treesubj&link=20715التَّكَالِيفُ الِاعْتِقَادِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ مِمَّا يَسَعُ الْأُمِّيَّ تَعَقُّلُهَا ، لِيَسَعَهُ الدُّخُولُ تَحْتَ حُكْمِهَا .
أَمَّا الِاعْتِقَادِيَّةُ - بِأَنْ تَكُونَ مِنَ الْقُرْبِ لِلْفَهْمِ ، وَالسُّهُولَةِ عَلَى الْعَقْلِ بِحَيْثُ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْجُمْهُورُ ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ثَاقِبَ الْفَهْمِ أَوْ بَلِيدًا ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْخَوَاصُّ لَمْ تَكُنِ الشَّرِيعَةُ عَامَّةً ، وَلَمْ تَكُنْ أُمِّيَّةً ، وَقَدْ ثَبَتَ كَوْنُهَا كَذَلِكَ ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمَعَانِي الْمَطْلُوبُ عِلْمُهَا وَاعْتِقَادُهَا سَهْلَةَ الْمَأْخَذِ .
وَأَيْضًا; فَلَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَزِمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجُمْهُورِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ ، وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُعَرِّفْ مِنَ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَّا بِمَا يَسَعُ فَهْمُهُ ، وَأَرْجَتْ غَيْرَ ذَلِكَ ، فَعَرَّفَتْهُ بِمُقْتَضَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ ، وَحَضَّتْ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ ، وَأَحَالَتْ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ عَلَى قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ الشُّورَى : 11 ] ، وَسَكَتَتْ عَنْ أَشْيَاءَ لَا تَهْتَدِي إِلَيْهَا الْعُقُولُ ، نَعَمْ ، لَا يُنْكَرُ
[ ص: 142 ] تَفَاضُلُ الْإِدْرَاكَاتِ عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي الْقَدْرِ الْمُكَلَّفِ بِهِ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْهُمْ مِنَ الْخَوْضِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَكُونُ أَصْلًا لِلْبَاحِثِينَ وَالْمُتَكَلِّفِينَ ، كَمَا لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ ، بَلِ الَّذِي جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ النَّهْيُ عَنِ
nindex.php?page=treesubj&link=19779الْخَوْضِ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَغَيْرِهَا; حَتَّى قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337478لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ ، حَتَّى يَقُولُوا : هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ ؟ .
وَثَبَتَ
nindex.php?page=treesubj&link=32220النَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ ، وَعَنْ تَكَلُّفِ مَا لَا يَعْنِي عَامًّا فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ ، وَأَخْبَرَ
مَالِكٌ أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْكَلَامَ إِلَّا فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ مَا كَانَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ لِفَهْمِهَا مِمَّا
[ ص: 143 ] سُكِتَ عَنْهُ ، أَوْ مِمَّا وَقَعَ نَادِرًا مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ مُحَالًا بِهِ عَلَى آيَةِ التَّنْزِيهِ .
وَعَلَى هَذَا; فَالتَّعَمُّقُ فِي الْبَحْثِ فِيهَا وَتَطَلُّبُ مَا لَا يَشْتَرِكُ الْجُمْهُورُ فِي فَهْمِهِ خُرُوجٌ عَنْ مُقْتَضَى وَضْعِ الشَّرِيعَةِ الْأُمِّيَّةِ; فَإِنَّهُ رُبَّمَا جَمَحَتِ النَّفْسُ إِلَى طَلَبِ مَا لَا يُطْلَبُ مِنْهَا; فَوَقَعَتْ فِي ظُلْمَةٍ لَا انْفِكَاكَ لَهَا مِنْهَا ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ :
وَلِلْعُقُولِ قُوًى تَسْتَنُّ دُونَ مَدًى إِنْ تَعْدُهَا ظَهَرَتْ فِيهَا اضْطِرَابَاتُ
.
وَمِنْ طِمَاحِ النُّفُوسِ إِلَى مَا لَمْ تُكَلَّفْ بِهِ نَشَأَتِ الْفِرَقُ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا .
وَأَمَّا الْعَمَلِيَّاتُ ; فَمِنْ مُرَاعَاةِ الْأُمِّيَّةِ فِيهَا أَنْ وَقَعَ تَكْلِيفُهُمْ بِالْجَلَائِلِ فِي الْأَعْمَالِ وَالتَّقْرِيبَاتِ فِي الْأُمُورِ ، بِحَيْثُ يُدْرِكُهَا الْجُمْهُورُ كَمَا عَرَّفَ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ بِالْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ لَهُمْ; كَتَعْرِيفِهَا بِالظِّلَالِ ، وَطُلُوعِ الْفَجْرِ وَالشَّمْسِ ، وَغُرُوبِهَا وَغُرُوبِ الشَّفَقِ ، وَكَذَلِكَ فِي الصِّيَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=187حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [ الْبَقَرَةِ : 187 ] وَلَمَّا كَانَ فِيهِمْ مَنْ حَمَلَ الْعِبَارَةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا; نَزَلَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=187مِنَ الْفَجْرِ .
وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337479إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا ، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا ، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ; فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ .
[ ص: 144 ] وَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337480nindex.php?page=treesubj&link=32201نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسُبُ وَلَا نَكْتُبُ ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا .
وَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337481لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ ، فَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ; فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ .
وَلَمْ يُطَالِبْنَا بِحِسَابِ مَسِيرِ الشَّمْسِ مَعَ الْقَمَرِ فِي الْمَنَازِلِ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْهُودِ الْعَرَبِ وَلَا مِنْ عُلُومِهَا ، وَلِدِقَّةِ الْأَمْرِ فِيهِ ، وَصُعُوبَةِ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ ، وَأَجْرَى لَنَا غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ مُجْرَى الْيَقِينِ ، وَعَذَرَ الْجَاهِلَ فَرَفَعَ
[ ص: 145 ] عَنْهُ الْإِثْمَ ، وَعَفَا عَنِ الْخَطَأِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ لِلْجُمْهُورِ ، فَلَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ عَمَّا حُدَّ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَلَا تَطَّلُّبُ مَا وَرَاءَ هَذِهِ الْغَايَةِ ، فَإِنَّهَا مَظِنَّةُ الضَّلَالِ ، وَمَزِلَّةُ الْأَقْدَامِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ تَدْقِيقِ النَّظَرِ فِي مَوَاقِعِ الْأَحْكَامِ ، وَمَظَانِّ الشُّبُهَاتِ ، وَمَجَارِي الرِّيَاءِ ، وَالتَّصَنُّعِ لِلنَّاسِ ، وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي التَّحَرُّزِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُهْلِكَاتِ - الَّتِي هِيَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الدَّقَائِقِ - الَّتِي لَا يَهْتَدِي إِلَى فَهْمِهَا وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ ، وَقَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ عَظَائِمَ ، وَهِيَ مِمَّا لَا يَصِلُ إِلَيْهَا الْجُمْهُورُ .
وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْعُلَمَاءِ مَزِيَّةٌ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ ، وَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ خَاصَّةً وَعَامَّةً ، وَكَانَ لِلْخَاصَّةِ مِنَ الْفَهْمِ فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَامَّةِ ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ عَرَبًا وَأُمَّةً أُمِّيَّةً ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْقُرُونِ إِلَى الْيَوْمِ ، فَكَيْفَ هَذَا ؟
وَأَيْضًا; فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28640الشَّرِيعَةَ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ عَامَّةً ، وَمَا يَعْرِفُهُ الْعُلَمَاءُ خَاصَّةً ، وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى ، وَذَلِكَ الْمُتَشَابِهَاتُ فَهِيَ شَامِلَةٌ لِمَا يُوصَلُ إِلَى فَهْمِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَمَا لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَمَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ ، فَأَيْنَ الِاخْتِصَاصُ بِمَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ خَاصَّةً ؟
فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ : أَمَّا الْمُتَشَابِهَاتُ; فَإِنَّهَا مِنْ قَبِيلٍ غَيْرِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهَا إِمَّا رَاجِعَةٌ إِلَى أُمُورٍ إِلَهِيَّةٍ لَمْ يَفْتَحِ الشَّارِعُ لِفَهْمِهَا بَابًا غَيْرَ التَّسْلِيمِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ
[ ص: 146 ] آيَةِ التَّنْزِيهِ ، وَإِمَّا رَاجِعَةٌ إِلَى قَوَاعِدَ شَرْعِيَّةٍ; فَتَتَعَارَضُ أَحْكَامُهَا ، وَهَذَا خَاصٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى عَامٍّ هُوَ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا يُجَابُ عَنْهَا بِأَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهَا أُمُورٌ إِضَافِيَّةٌ لَمْ يُتَعَبَّدْ بِهَا أَوَّلَ الْأَمْرِ لِلْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ تَعْرِضُ لِمَنْ تَمَرَّنَ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَزَاوَلَ أَحْكَامَ التَّكْلِيفِ ، وَامْتَازَ عَنِ الْجُمْهُورِ بِمَزِيدِ فَهْمٍ فِيهَا ، حَتَّى زَايَلَ الْأُمِّيَّةَ مِنْ وَجْهٍ ، فَصَارَ تَدْقِيقُهُ فِي الْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَتَهُ ، فَنِسْبَتُهُ إِلَى مَا فَهِمَهُ ، نِسْبَةُ الْعَامِّيِّ إِلَى مَا فَهِمَهُ ، وَالنِّسْبَةُ إِذَا كَانَتْ مَحْفُوظَةً ، فَلَا يَبْقَى تَعَارُضٌ بَيْنَ مَا تَقَدَّمَ ، وَمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَهْلَ الشَّرِيعَةِ عَلَى مَرَاتِبَ لَيْسُوا فِيهَا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ، كَمَا أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ ، فَلَيْسَ مَنْ لَهُ مَزِيدٌ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ ، كَمَنْ لَا مَزِيدَ لَهُ ، لَكِنَّ الْجَمِيعَ جَارٍ عَلَى أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ .
وَالِاخْتِصَاصَاتُ فِيهَا هِبَاتٌ مِنَ اللَّهِ لَا تُخْرِجُ أَهْلَهَا عَنْ حُكْمِ الِاشْتِرَاكِ ، بَلْ يَدْخُلُونَ مَعَ غَيْرِهِمْ فِيهَا ، وَيَمْتَازُونَ هُمْ بِزِيَادَاتٍ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُشْتَرَكِ
[ ص: 147 ] بِعَيْنِهِ ، فَإِنِ امْتَازُوا بِمَزِيدِ الْفَهْمِ لَمْ يُخْرِجْهُمْ ذَلِكَ عَنْ حُكْمِ الِاشْتِرَاكِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَزِيدَ أَصْلُهُ الْأَمْرُ الْمُشْتَرَكُ .
كَمَا نَقُولُ : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18601الْوَرَعَ مَطْلُوبٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمِنْهُ مَا هُوَ مِنَ الْجَلَائِلِ ، كَالْوَرَعِ عَنِ الْحَرَامِ الْبَيِّنِ وَالْمَكْرُوهِ الْبَيِّنِ ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ مِنَ الْجَلَائِلِ عِنْدَ قَوْمٍ ، وَهُوَ مِنْهَا عِنْدَ قَوْمٍ آخَرِينَ ، فَصَارَ الَّذِينَ عَدُّوهُ مِنَ الْجَلَائِلِ دَاخِلِينَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ كَانُوا قَدِ امْتَازُوا عَنْهُمْ بِالْوَرَعِ عَنْ بَعْضِ مَا لَا يَتَوَرَّعُ عَنْهُ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ، بِنَاءً عَلَى الشَّهَادَةِ بِكَوْنِ الْمَوْضِعِ مُتَأَكَّدًا لِبَيَانِهِ أَوْ غَيْرَ مُتَأَكَّدٍ لِدِقَّتِهِ ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا الْخَوَاصُّ عَنِ الْعَوَامِّ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْقَانُونِ; فَقَدْ بَانَ أَنَّ الْجَمِيعَ جَارُونَ عَلَى حُكْمِ أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ مَفْهُومٍ لِلْجُمْهُورِ عَلَى الْجُمْلَةِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28640مَا فِيهِ التَّفَاوُتُ إِنَّمَا تَجِدُهُ فِي الْغَالِبِ فِي الْأُمُورِ الْمُطْلَقَةِ فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَمْ يُوضَعْ لَهَا حَدٌّ يُوقَفُ عِنْدَهُ ، بَلْ وُكِلَتْ إِلَى نَظَرِ الْمُكَلَّفِ ، فَصَارَ كُلُّ أَحَدٍ فِيهَا مَطْلُوبًا بِإِدْرَاكِهِ ، فَمِنْ مُدْرِكٍ فِيهَا أَمْرًا قَرِيبًا ، فَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ ، وَمِنْ مُدْرِكٍ فِيهَا أَمْرًا هُوَ فَوْقَ الْأَوَّلِ ، فَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ ، وَرُبَّمَا تَفَاوَتَ
[ ص: 148 ] الْأَمْرُ فِيهَا بِحَسَبِ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ عَلَى الدَّوَامِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ ، فَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا ، بَلْ بِمَا هُوَ دُونَهَا ، وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَطْلُوبًا ، وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ يُعْتَبَرُ مَا جَاءَ مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَلِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ وُضِعَتِ الْعَمَلِيَّاتُ عَلَى وَجْهٍ لَا تُخْرِجُ الْمُكَلَّفَ إِلَى مَشَقَّةٍ يَمَلُّ بِسَبَبِهَا ، أَوْ إِلَى تَعْطِيلِ عَادَاتِهِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا صَلَاحُ دُنْيَاهُ ، وَيَتَوَسَّعُ بِسَبَبِهَا فِي نَيْلِ حُظُوظِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي لَمْ يُزَاوِلْ شَيْئًا مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا الْعَقْلِيَّةِ - وَرُبَّمَا اشْمَأَزَّ قَلْبُهُ عَمَّا يُخْرِجُهُ عَنْ مُعْتَادِهِ - بِخِلَافِ مَنْ كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عَهْدٌ ، وَمِنْ هُنَا
nindex.php?page=treesubj&link=28864كَانَ نُزُولُ الْقُرْآنِ نُجُومًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً ، وَوَرَدَتِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ فِيهَا شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَلَمْ تَنْزِلْ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَذَلِكَ لِئَلَّا تَنْفِرَ عَنْهَا النُّفُوسُ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَفِيمَا يُحْكَى عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16673عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ ابْنَهُ
عَبْدَ الْمَلِكِ ، قَالَ لَهُ : " مَا لَكَ لَا تُنَفِّذُ الْأُمُورَ ؟ فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي لَوْ أَنَّ الْقُدُورَ غَلَتْ بِي وَبِكَ فِي الْحَقِّ " . قَالَ لَهُ
عُمَرُ : " لَا تَعْجَلْ يَا بُنَيَّ فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْخَمْرَ فِي الْقُرْآنِ مَرَّتَيْنِ ، وَحَرَّمَهَا فِي الثَّالِثَةِ ، وَإِنَّى أَخَافُ أَنْ أَحْمِلَ الْحَقَّ عَلَى النَّاسِ جُمْلَةً ، فَيَدْفَعُوهُ جُمْلَةً ، وَيَكُونُ مِنْ ذَا فِتْنَةٌ " .
[ ص: 149 ] وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ فِي الِاسْتِقْرَاءِ الْعَادِيِّ; فَكَانَ مَا كَانَ أَجْرَى بِالْمَصْلَحَةِ وَأَجْرَى عَلَى جِهَةِ التَّأْنِيسِ ، وَكَانَ أَكْثَرُهَا عَلَى أَسْبَابٍ وَاقِعَةٍ; فَكَانَتْ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ حِينَ صَارَتْ تَنْزِلُ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ ، وَكَانَتْ أَقْرَبَ فَكَانَتْ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ حِينَ صَارَتْ تَنْزِلُ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ ، وَكَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى التَّأْنِيسِ حِينَ كَانَتْ تَنْزِلُ حُكْمًا حُكْمًا وَجُزْئِيَّةً جُزْئِيَّةً ، لِأَنَّهَا إِذَا نَزَلَتْ كَذَلِكَ لَمْ يَنْزِلْ حُكْمٌ إِلَّا وَالَّذِي قَبْلَهُ قَدْ صَارَ عَادَةً ، وَاسْتَأْنَسَتْ بِهِ نَفْسُ الْمُكَلَّفِ الصَّائِمِ عَنِ التَّكْلِيفِ ، وَعَنِ الْعِلْمِ بِهِ رَأْسًا ، فَإِذَا نَزَلَ الثَّانِي كَانَتِ النَّفْسُ أَقْرَبَ لِلِانْقِيَادِ لَهُ ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ .
وَلِذَلِكَ أُونِسُوا فِي الِابْتِدَاءِ بِأَنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ مِلَّةُ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، كَمَا يُؤْنَسُ الطِّفْلُ فِي الْعَمَلِ بِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ أَبِيهِ ، يَقُولُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [ الْحَجِّ : 78 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=123ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ النَّحْلِ : 123 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=68إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [ آلِ عِمْرَانَ : 68 ] .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ، فَلَوْ نَزَلَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَتَكَاثَرَتِ التَّكَالِيفُ عَلَى الْمُكَلَّفِ; فَلَمْ يَكُنْ لِيَنْقَادَ إِلَيْهَا انْقِيَادَهُ إِلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ أَوِ الِاثْنَيْنِ .
[ ص: 150 ] وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337482الْخَيْرُ عَادَةٌ وَإِذَا اعْتَادَتِ النَّفْسُ فِعْلًا مَا مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ حَصَلَ لَهُ بِهِ نُورٌ فِي قَلْبِهِ ، وَانْشَرَحَ بِهِ صَدْرُهُ; فَلَا يَأْتِي فِعْلٌ ثَانٍ إِلَّا وَفِي النَّفْسِ لَهُ الْقَبُولُ ، هَذَا فِي عَادَةِ اللَّهِ فِي أَهْلِ الطَّاعَةِ ، وَعَادَةٌ أُخْرَى جَارِيَةٌ فِي النَّاسِ أَنَّ النَّفْسَ أَقْرَبُ انْقِيَادًا إِلَى فِعْلٍ يَكُونُ عِنْدَهَا فِعْلٌ آخَرُ مِنْ نَوْعِهِ ، وَمِنْ هُنَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْرَهُ أَضْدَادَ هَذَا وَيُحِبُّ مَا يُلَائِمُهُ ، فَكَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=20056يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيَكْرَهُ الْعُنْفَ ، وَيَنْهَى عَنِ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ مَا لَا يُطَاقُ حَمْلُهُ; لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الِانْقِيَادِ ، وَأَسْهَلُ فِي التَّشْرِيعِ لِلْجُمْهُورِ .