وأما الضرب الثاني - وهو - فثلاثة أنواع : الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع
أحدها : المسمى بتنقيح المناط ، وذلك أن يكون الوصف المعتبر في [ ص: 20 ] الحكم مذكورا مع غيره في النص; فينقح بالاجتهاد حتى يميز ما هو معتبر مما هو ملغى ، كما جاء في حديث الأعرابي الذي جاء ينتف شعره ويضرب صدره .
وقد قسمه إلى أقسام ذكرها في " شفاء الغليل " ، وهو مبسوط [ ص: 21 ] في كتب الأصول ، قالوا : وهو خارج عن باب القياس ، ولذلك قال به الغزالي أبو حنيفة مع إنكاره القياس في الكفارات ، وإنما هو راجع إلى نوع من تأويل الظواهر .
والثاني : المسمى بتخريج المناط ، وهو راجع إلى أن النص الدال على [ ص: 22 ] الحكم لم يتعرض للمناط; فكأنه أخرج بالبحث ، وهو الاجتهاد القياسي ، وهو معلوم .
والثالث : هو نوع من تحقيق المناط المتقدم الذكر; لأنه ضربان :
[ ص: 23 ] أحدهما : ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص; كتعيين نوع المثل في جزاء الصيد ، ونوع الرقبة في العتق في الكفارات ، وما أشبه ذلك ، وقد تقدم التنبيه عليه .
والضرب الثاني : ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقق مناط حكمه; فكأن تحقيق المناط على قسمين :
- تحقيق عام ، وهو ما ذكر .
- وتحقيق خاص من ذلك العام .
وذلك أن الأول نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما ، فإذا نظر المجتهد في العدالة مثلا ووجد هذا الشخص متصفا بها على حسب ما ظهر له أوقع عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المنوطة بالعدول ، من الشهادات والانتصاب للولايات العامة أو الخاصة ، وهكذا إذا نظر في الأوامر والنواهي الندبية ، والأمور الإباحية ووجد المكلفين والمخاطبين على الجملة ، أوقع عليهم أحكام تلك النصوص ، كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة; فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في هذا النظر .
أما الثاني - وهو النظر الخاص - فأعلى من هذا وأدق ، وهو في الحقيقة [ ص: 24 ] ناشئ عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا [ الأنفال : 29 ] وقد يعبر عنه بالحكمة ، ويشير إليها قوله تعالى يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا [ البقرة : 269 ] قال مالك : من شأن ابن آدم ألا يعلم ثم يعلم ، أما سمعت قول الله تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا [ الأنفال : 29 ] ، وقال أيضا : إن الحكمة مسحة ملك على قلب العبد ، وقال : الحكمة نور يقذفه الله في قلب العبد ، وقال أيضا : يقع بقلبي أن الحكمة الفقه في دين الله ، وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله .
وقد كره مالك - يريد ما كان نحو الفتاوى - فسئل ما الذي نصنع ؟ فقال : تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ، ثم لا تحتاجون إلى الكتاب . كتابة العلم
وعلى الجملة; بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ، ومداخل [ ص: 25 ] الهوى والحظوظ العاجلة حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل ، هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره . فتحقيق المناط الخاص نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية
ويختص غير المنحتم بوجه آخر ، وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت ، وحال دون حال ، وشخص دون شخص; إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد ، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك; فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة ، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر ، ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر ، ويكون بريئا من ذلك في بعض الأعمال دون بعض; فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها ، وتفاوت إدراكها ، وقوة تحملها للتكاليف ، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها ، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها; فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها ، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف; فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق ، لكن مما ثبت عمومه في التحقيق الأول العام ، ويقيد به ما ثبت إطلاقه في الأولي ، أو يضم قيدا أو قيودا لما ثبت له في الأول بعض القيود .
[ ص: 26 ] هذا معنى هنا . تحقيق المناط
وبقي الدليل على صحة هذا الاجتهاد; فإن ما سواه قد تكفل الأصوليون ببيان الدلالة عليه ، وهو داخل تحت عموم تحقيق المناط; فيكون مندرجا تحت مطلق الدلالة عليه ، ولكن إن تشوف أحد إلى خصوص الدلالة عليه فالأدلة عليه كثيرة نذكر منها ما تيسر بحول الله :
فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال ، وخير الأعمال ، وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال; فأجاب بأجوبة مختلفة ، كل واحد منها لو حمل على إطلاقه أو عمومه لاقتضى مع غيره التضاد في التفصيل; ففي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام سئل : " . أي الأعمال أفضل ؟ قال : " إيمان بالله " قال : ثم ماذا ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " قال : ثم ماذا ؟ قال : " حج مبرور
" . وسئل عليه الصلاة والسلام : أي الأعمال أفضل ؟ قال : " الصلاة لوقتها " قال : ثم أي ؟ قال : " بر الوالدين " قال : ثم أي ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله
[ ص: 27 ] وفي النسائي أبي أمامة قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : مرني بأمر آخذه عنك ، قال : عليك بالصوم فإنه لا مثل له . عن
وفي الترمذي : " . سئل أي الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات
وفي الصحيح في قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له . . إلخ ، قال : ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به ، الحديث .
[ ص: 28 ] وفي : " النسائي " . ليس شيء أكرم على الله من الدعاء
وفي البزار : أي العبادة أفضل ؟ قال : " دعاء المرء لنفسه " [ ص: 29 ] وفي الترمذي : " " . ما من شيء أفضل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من خلق حسن
وفي البزار : " يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما ؟ عليك بحسن الخلق ، وطول الصمت; فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما " .
[ ص: 30 ] وفي مسلم : " . أي المسلمين خير ؟ قال : من سلم المسلمون من لسانه ويده
وفيه : . سئل أي الإسلام خير ؟ قال : تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف
وفي الصحيح : " " . وما أعطي أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر
[ ص: 31 ] وفي الترمذي : . خيركم من تعلم القرآن وعلمه
وفيه : " " . أفضل العبادة انتظار الفرج
إلى أشياء من هذا النمط جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق ، ويشعر إشعارا ظاهرا بأن القصد إنما هو بالنسبة إلى الوقت أو إلى حال السائل .
[ ص: 32 ] وقد دعا عليه السلام بكثرة المال; فبورك له فيه . لأنس
وقال لثعلبة بن حاطب حين سأله الدعاء له بكثرة المال : قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه .
وقال لأبي ذر : أبا ذر إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم ومعلوم أن كلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله ، وقد قال في الإمارة والحكم : يا الحديث [ ص: 33 ] وقال : إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ثم نهاه عنهما لما علم له خصوصا في ذلك من الصلاح . أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة
وفي " أحكام " عن إسماعيل بن إسحاق قال : كان ابن سيرين ; أبو بكر يخافت ، وكان عمر يجهر - يعني في الصلاة - فقيل لأبي بكر : كيف تفعل ؟ قال : أناجي ربي وأتضرع إليه ، وقيل لعمر : كيف تفعل ؟ قال : أوقظ الوسنان ، وأخشأ الشيطان ، وأرضي الرحمن ، فقيل لأبي بكر : ارفع شيئا ، وقيل لعمر : اخفض شيئا ، وفسر بأنه عليه الصلاة والسلام قصد إخراج كل واحد منهما [ ص: 34 ] عن اختياره وإن كان قصده صحيحا .
وفي الصحيح : " . أن ناسا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به ، قال : " وقد وجدتموه ؟ " قالوا : نعم ، قال : " ذلك صريح الإيمان
وفي حديث آخر : " وعن " من وجد من ذلك شيئا فليقل : آمنت بالله في مثله قال : " إذا وجدت شيئا من ذلك فقل : ابن عباس هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم [ الحديد : 3 ] فأجاب النبي عليه الصلاة والسلام بأجوبة مختلفة ، وأجاب بأمر آخر ، والعارض من نوع واحد . ابن عباس
وفي الصحيح : . إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه; مخافة أن يكبه الله في النار
[ ص: 35 ] وآثر عليه الصلاة والسلام في بعض الغنائم قوما ، ووكل قوما إلى إيمانهم لعلمه بالفريقين ، وقبل عليه الصلاة والسلام من أبي بكر ماله كله ، وندب غيره إلى استبقاء بعضه وقال : " أمسك عليك بعض مالك; فهو خير لك " وجاء آخر بمثل البيضة من الذهب; فردها في وجهه " .
[ ص: 36 ] وقال علي : " حدثوا الناس بما يفهمون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟ ! " فجعل إلقاء العلم مقيدا; فرب مسألة تصلح لقوم دون قوم ، وقد قالوا في الرباني : إنه الذي يعلم بصغار العلم قبل كباره; فهذا الترتيب من ذلك .
[ ص: 37 ] وروي عن قال : الفقيه كل الفقيه من فقه في القرآن ، وعرف مكيدة الشيطان ، فقوله : وعرف مكيدة الشيطان ، هو النكتة في المسألة . الحارث بن يعقوب
وعن قال : " قلت أبي رجاء العطاردي : مالي أراكم يا أصحاب للزبير بن العوام محمد من أخف الناس صلاة ؟ قال : نبادر الوسواس " هذا مع أن التطويل مستحب ، ولكن جاء ما يعارضه ، ومثله حديث " معاذ ؟ " ولو تتبع هذا النوع لكثر جدا ، ومنه ما جاء عن الصحابة والتابعين وعن الأئمة المتقدمين ، وهو كثير . أفتان أنت يا
في الأنواع واتفاق الناس عليه في الجملة مما يشهد له كما تقدم ، وقد فرع العلماء عليه; كما قالوا في قوله تعالى : وتحقيق المناط إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا الآية [ المائدة : 33 ] [ ص: 38 ] إن الآية تقتضي مطلق التخيير ، ثم رأوا أنه مقيد بالاجتهاد ، فالقتل في موضع ، والصلب في موضع ، والقطع في موضع ، والنفي في موضع ، وكذلك التخيير في الأسارى من المن والفداء .
وكذلك جاء في الشريعة الأمر بالنكاح وعدوه من السنن ، ولكن قسموه إلى الأحكام الخمسة ، ونظروا في ذلك في حق كل مكلف وإن كان نظرا نوعيا; فإنه لا يتم إلا بالنظر الشخصي ، فالجميع في معنى واحد والاستدلال على الجميع واحد ، ولكن قد يستبعد ببادئ الرأي وبالنظر الأول; حتى يتبين مغزاه ومورده من الشريعة ، وما تقدم وأمثاله كاف مفيد للقطع بصحة هذا الاجتهاد ، وإنما وقع التنبيه عليه; لأن العلماء قلما نبهوا عليه على الخصوص ، وبالله التوفيق .
فإن قيل : كيف تصح دعوى التفرقة بين هذا الاجتهاد المستدل عليه وغيره من أنواع الاجتهاد ، مع أنهما في الحكم سواء ؟ لأنه إن كان غير منقطع فغيره كذلك ، إذ لا يخلو أن يراد بكونه غير منقطع أنه لا يصح ارتفاعه بالكلية ، وإن صح إيقاع بعض جزئياته ، أو يراد أنه لا يصح ارتفاعه لا بالكلية ، ولا بالجزئية ، وعلى كل تقدير فسائر أنواع الاجتهاد كذلك .
أما الأول; فلأن الوقائع في الوجود لا تنحصر ، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة ، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره; فلا [ ص: 39 ] بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصا على حكمها ، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد ، وعند ذلك فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم ، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي ، وهو أيضا اتباع للهوى ، وذلك كله فساد ، فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية ، وهو معنى تعطيل التكليف لزوما ، وهو مؤد إلى تكليف ما لا يطاق ، فإذا لا بد من الاجتهاد في كل زمان; لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان .
وأما الثاني فباطل إذ لا يتعطل مطلق التكليف بتعذر الاجتهاد في بعض الجزئيات فيمكن ارتفاعه في هذا النوع الخاص وفي غيره ، فلم يظهر بين الاجتهادين فرق .
فالجواب أن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن هذا النوع الخاص كلي في كل زمان ، عام في جميع الوقائع أو أكثرها فلو فرض ارتفاعه لارتفع معظم التكليف الشرعي أو جميعه ، وذلك غير صحيح; لأنه إن فرض في زمان ما ارتفعت الشريعة ضربة لازب بخلاف غيره; فإن الوقائع المتجددة التي لا عهد بها في الزمان المتقدم قليلة بالنسبة إلى ما تقدم لاتساع النظر والاجتهاد من المتقدمين ، فيمكن تقليدهم فيه; لأنه معظم الشريعة ، فلا تتعطل الشريعة بتعطل [ ص: 40 ] بعض الجزئيات ، كما لو فرض العجز عن تحقيق المناط في بعض الجزئيات دون السائر; فإنه لا ضرر على الشريعة في ذلك; فوضح أنهما ليسا سواء ، والله أعلم .