الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خلافة المطيع لله

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لما قدم معز الدولة بغداد وقبض على المستكفي وسملت عيناه ، استدعى بأبي القاسم الفضل بن المقتدر بالله ، وقد كان مختفيا من المستكفي ، وهو يحث في طلبه ويجتهد ، فلم يقدر عليه ، ويقال : إنه اجتمع بمعز الدولة سرا ، فحرضه على المستكفي حتى كان من أمره ما كان ، فأحضر أبو القاسم بن المقتدر فبويع بالخلافة ولقب بالمطيع لله ، وبايعه الأمراء والأعيان ومعز الدولة والعامة ، وضعف أمر الخلافة جدا حتى لم يبق للخليفة أمر ولا نهي ولا وزير أيضا ، وإنما يكون له كاتب على أقطاعه فقط ، وإنما مورد أمور المملكة ومصدرها راجع إلى معز الدولة ، وإنما كان ذلك لأن بني بويه ومن معهم من الديلم فيهم تشيع شديد ، فكانوا يرون أن بني العباس قد غصبوا الأمر من العلويين ، حتى عزم معز الدولة [ ص: 169 ] على تحويل الخلافة عنهم إلى العلويين ، واستشار أصحابه في ذلك ، فكلهم أشار عليه بذلك ، إلا رجلا من أصحابه ، كان سديد الرأي فيهم ، فإنه قال له : لا أرى لك هذا . قال : ولم ذاك ؟ قال : لأن هذا خليفة ترى أنت وأصحابك أنه غير صحيح الإمارة ، فمتى أمرت بقتله قتله أصحابك ، ولو وليت رجلا من العلويين لكنت أنت وأصحابك تعتقدون صحة ولايته ، فلو أمر بقتلك لقتلك أصحابك . فلما فهم ذلك صرفه عن رأيه الأول ، للدنيا لا لله عز وجل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم نشبت الحرب بين ناصر الدولة بن حمدان وبين معز الدولة بن بويه ، فركب ناصر الدولة بعدما خرج معز الدولة والخليفة المطيع إلى عكبرا فدخل بغداد فأخذ الجانب الشرقي ثم الغربي ، وضعف أمر معز الدولة والديالمة الذين معه ، ثم مكر به معز الدولة وخدعه حتى استظهر عليه ، وانتصر أصحابه ، فنهبوا بغداد وما قدروا عليه من أموال التجار وغيرهم ، فكان قيمة ما أخذ أصحاب معز الدولة من الناس عشرة آلاف ألف دينار ، ثم وقع الصلح بين ناصر الدولة ومعز الدولة ، ورجع ابن حمدان إلى بلده الموصل واستقر معز الدولة بمدينة السلام بغداد ثم شرع في استعمال السعاة ليبلغوا أخاه ركن الدولة أخباره ، فغوى العامة في ذلك ، وعلموا أبناءهم ذلك ، حتى كان من الناس من يقطع نيفا وثلاثين فرسخا في يوم ، وأعجبه المصارعون والملاكمون وغير ذلك من أرباب هذه الصناعات التي لا ينتفع بها إلا قليلا ; كالسباحة ونحوها ، وكانت تضرب الطبول بين يديه ويصارع بين الرجال ، والكوسات [ ص: 170 ] تدق حول سور المكان الذي هو فيه ، وهذه رعونة شديدة وسخافة عقل منه وممن وافقه على ذلك ، ثم احتاج معز الدولة إلى صرف أموال في أرزاق الأجناد ، فأقطعهم البلاد عوضا عن أرزاقهم ، فأدى ذلك إلى تخريبها وترك عمارتها ، إلا الأراضي التي بأيدي أصحاب الجاهات .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة وقع غلاء شديد ببغداد حتى أكلوا الميتة والكلاب والسنانير ، وكان من الناس من يسرق الأولاد فيشويهم ويأكلهم ، وكثر الموت في الناس حتى كان لا يدفن أحد أحدا ، بل يتركون على الطرقات ، فيأكل كثيرا منهم الكلاب ، وبيعت الدور والعقار بالخبز ، وانتجع الناس البصرة فكان منهم من يموت في الطريق ، ومن وصل منهم مات بعد مديدة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها كانت وفاة القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن عبيد الله المهدي ، وولي الأمر من بعده ولده المنصور إسماعيل ، وكان حازم الرأي شديدا شجاعا ، كما ذكرنا ذلك في السنة الماضية ، وكانت وفاته في شوال من هذه السنة على الصحيح .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي الإخشيد محمد بن طغج صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية ، وكانت وفاته بدمشق وله من العمر بضع وستون سنة ، وأقيم ولده أبو القاسم أنوجور - وكان صغيرا - وأقيم كافور الإخشيدي أتابكه ، فكان [ ص: 171 ] يدبر الممالك بالبلاد كلها ، واستحوذ على الأمور كلها ، وسار إلى مصر ، فقصد سيف الدولة بن حمدان دمشق فأخذها من أصحاب الإخشيد ففرح بها فرحا شديدا ، واجتمع بمحمد بن محمد بن نصر الفارابي التركي الفيلسوف بها ، وركب سيف الدولة يوما مع الشريف العقيقي في بعض نواحي دمشق فنظر سيف الدولة إلى الغوطة فأعجبته ، وقال : ينبغي أن تكون هذه كلها لديوان السلطان ، كأنه يعرض بأخذها من ملاكها ، فأوغر ذلك العقيقي إلى أهل دمشق فكتبوا إلى كافور الإخشيدي يستنجدونه ، فأقبل إليهم في جيوش كثيرة كثيفة ، فأجلى عنهم سيف الدولة وطرده عن حلب أيضا ، واستناب عليها ، ثم كر راجعا فاستناب على دمشق بدرا الإخشيدي - ويعرف ببدير - فلما صار كافور إلى الديار المصرية رجع سيف الدولة إلى حلب فأخذها كما كانت أولا له ، ولم يبق له في دمشق شيء . وكافور هذا هو الذي هجاه المتنبي ، ومدحه أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية