الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 717 ) مسألة : قال : ( ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه ، ثم يداه ، ثم جبهته وأنفه ) هذا المستحب في مشهور المذهب ، وقد روي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه قال مسلم بن يسار ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والشافعي . وعن أحمد رواية أخرى أنه يضع يديه قبل ركبتيه . وإليه ذهب مالك ; لما روي عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : إذا سجد أحدكم فليضع يديه قبل ركبتيه ولا يبرك بروك البعير } . رواه النسائي .

                                                                                                                                            ولنا ، ما روى وائل بن حجر ، قال { : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه ، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه } . أخرجه أبو داود ، والنسائي ، والترمذي . قال الخطابي : هذا أصح من حديث أبي هريرة . وروي عن أبي سعيد ، قال : { كنا نضع اليدين قبل الركبتين ، فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين . } وهذا يدل على نسخ ما تقدمه ، وقد روى الأثرم حديث أبي هريرة { : إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ، ولا يبرك بروك الفحل } .

                                                                                                                                            ( 718 ) فصل : والسجود على جميع هذه الأعضاء واجب ، إلا الأنف ، فإن فيه خلافا سنذكره إن شاء [ ص: 304 ] الله ، وبهذا قال طاوس ، والشافعي في أحد قوليه وإسحاق .

                                                                                                                                            وقال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي في القول الآخر : لا يجب ، السجود على غير الجبهة ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { سجد وجهي } . وهذا يدل على أن السجود على الوجه ، ولأن الساجد على الوجه يسمى ساجدا ، ووضع غيره على الأرض لا يسمى به ساجدا ، فالأمر بالسجود ينصرف إلى ما يسمى به ساجدا دون غيره ، ولأنه لو وجب السجود على هذه الأعضاء لوجب كشفها كالجبهة . وذكر الآمدي هذا رواية عن أحمد . وقال القاضي في " الجامع " : وهو ظاهر كلام أحمد ; فإنه قد نص في المريض يرفع شيئا يسجد عليه ، أنه يجزئه ، ومعلوم أنه قد أخل بالسجود على يديه . ولنا ما روى ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : أمرت بالسجود على سبعة أعظم ; اليدين ، والركبتين ، والقدمين ، والجبهة } . متفق عليه . وروي عن ابن عمر رفعه { : إن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه ، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه ، وإذا رفعه فليرفعهما } . رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي .

                                                                                                                                            وسجود الوجه لا ينفي سجود ما عداه ، وسقوط الكشف لا يمنع وجوب السجود ، فإنا نقول كذلك في الجبهة على رواية ، وعلى الرواية الأخرى فإن الجبهة هي الأصل ، وهي مكشوفة عادة ، بخلاف غيرها ، فإن أخل بالسجود بعضو من هذه الأعضاء ، لم تصح صلاته عند من أوجبه ، وإن عجز عن السجود على بعض هذه الأعضاء ، سجد على بقيتها ، وقرب العضو المريض من الأرض غاية ما يمكنه ; ولم يجب عليه أن يرفع إليه شيئا ; لأن السجود هو الهبوط ، ولا يحصل ذلك برفع المسجود عليه ، وإن سقط السجود على الجبهة ، لعارض من مرض أو غيره ، سقط عنه السجود على غيره ; لأنه الأصل وغيره تبع له ، فإذا سقط الأصل سقط التبع ، ولهذا قال أحمد في المريض يرفع إلى جبهته شيئا يسجد عليه : إنه يجزئه .

                                                                                                                                            ( 719 ) فصل : وفي الأنف روايتان : إحداهما ، يجب السجود عليه . وهذا قول سعيد بن جبير ، وإسحاق ، وأبي خيثمة ، وابن أبي شيبة ; لما روي عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ; الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين ، وأطراف القدمين } . متفق عليه ، وإشارته إلى أنفه تدل على أنه أراده ، وفي لفظ رواه النسائي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ، الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين } .

                                                                                                                                            وروى عكرمة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما تصيب الجبهة . } رواه الأثرم ، والإمام أحمد ، ورواه أبو بكر بن عبد العزيز ، والدارقطني في الأفراد متصلا ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح أنه مرسل . والرواية الثانية ، لا يجب السجود عليه . وهو قول عطاء ، وطاوس ، وعكرمة ، والحسن ، وابن سيرين ، والشافعي ، وأبي ثور ، وصاحبي أبي حنيفة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أمرت أن أسجد على سبعة أعظم } .

                                                                                                                                            ولم يذكر الأنف فيها ، وروي أن جابرا قال : { رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سجد بأعلى جبهته على قصاص الشعر . } رواه تمام ، في " فوائده " ، وغيره ، وإذا سجد بأعلى الجبهة لم يسجد على الأنف . وروي عن أبي حنيفة ، أنه إن سجد على أنفه دون جبهته ، أجزأه . قال ابن المنذر : لا أعلم أحدا سبقه إلى هذا القول ، ولعله ذهب إلى أن الجبهة والأنف عضو [ ص: 305 ] واحد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الجبهة أشار إلى أنفه ، والعضو الواحد يجزئه السجود على بعضه . وهذا قول يخالف الحديث الصحيح والإجماع الذي قبله ، فلا يصح .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية