الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              2- الأشخاص:

              عندما تتمحور العلاقات الاجتماعية في المجتمع حول الأصنام أو الأوثان البشرية، وليس حول الأفكار، فإن الجانب الروحي ينفصل عن الحياة بكل مكوناتها، وتتبلد مفاهيم المنطق والعدل والمساواة، يقول المولى عز وجل: ( وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ) (العنكبوت:25).

              فعندئذ يتعزز دور العصبية في الشخصية الاجتماعية الكلية للمجتمع، ويتراجع ويختزل دور "الأنا العليا" بكل ما تشتمل عليه من أفكار وقيم ومثل وضوابط، وتتشكل في المجتمع في مثل هذه الحالة شبكة من العلاقات الاجتماعية المادية- المصلحية والمنفعية- التي تقوم على استبداد القوي، وخضوع الضعيف. [ ص: 127 ]

              في مثل هذه المجتمعات، سواء أكان ذلك في صورتها الإقطاعية التقليدية أم الشمولية المعاصرة، تسود مسلكيات تبخيس العلم واختزال دور الدين وفصله عن الحياة، ويدور العلماء في فلك الأمراء والحكام، ويصبح الناس على دين ملوكهم، فقد ورد في كتب التاريخ والسير: "إن الناس كانوا إذا أصبحوا في زمن الحجاج يتساءلون إذا تلاقوا: من قتل البارحة؟، ومن صلب؟، ومن جلد؟، ومن قطع؟..إلخ. وفي عهد الوليد بن هشام صاحب الضياع والمصانع، كان الناس يتساءلون في زمانه عن البنيان والمصانع والضياع وشق الأنهار وغرس الأشجار، ولما ولي سليمان بن عبد الملك، وكان صاحب طعام ونكاح، كان الناس يتحدثون ويتساءلون في الأطعمة الرفيعة، ويتغالون في المناكح والسراري....، ولما ولي عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه، كان الناس يتساءلون: كم تحفظ من القرآن؟، وكم وردك كل ليلة؟، وكم يحفظ فلان؟ وكم يختم؟، وكم يصوم من الشهر؟.." [1] .

              وبتكاثف العلاقات الاجتماعية حول الأفراد والشخوص، يتحول المجتمع إلى ميدان للنخاسة والظلم، يوسد فيه الأمر لغير أهله، وتضيع الأمانة، وتستشري الشللية وجماعات المصالح بأشكالها وصورها المختلفة، وينتشر الكذب والنفاق والتزلف والتدليس والواسطة والمحسوبية والفساد بكل صوره وأشكاله، وتسود ثقافة: ( دعوها فإنها منتنة ) [2] ، حيث يكون الانتماء [ ص: 128 ] لأصحاب القوة، أو الطائفة، أو العشيرة، أو الإقليم، أو جميعها، وينتشر الجدل دون العمل، ويظهر الفراغ الاجتماعي في شبكة العلاقات الاجتماعية في مثل هذه المجتمعات في صورة أزمات يومية متلاحقة ومتكررة، تواجه الأفراد، وتحبط كل عمل جمعي أو جماعي نظرا لغياب الضوابط وغياب منظومات القيم والأخلاق، ونتيجة لذلك يصاب المجتمع بحالة من الانفصام في الشخصية، نظرا للتناقض بين ما هو ممارس على أرض الواقع، وبين ما هو مطلوب للتغلب على هذه الأزمات.

              في مثل هذه المجتمعات، التي تصبح كالغابة يأكل فيها القوي الضعيف، ينتشر الظلم، ويكثر الظلمة وأتباعهم من الأوغاد والسفلة، وتخبو كلمة الحق، ويقل أنصارها، وتضيع الحقوق، ويعتلي الجهلة والرويبضة منصات المسؤولية العامة، وتصبـح ثنائية القـوة والضعـف هـي عنـوان الحيـاة، لـذلك سـرعان ما يتراجع المجتمع تدريجيا حتى يصل إلى مرحلة الانهيار، ورحم الله من قال [3] :


              حتى متى لا نرى عدلا نسر به ولا نـرى لولاة الحـق أعـوانا     مستمسكين بحـق قائمين به
              إذا تلون أهـل الجـور ألـوانا     يا للرجـال لـداء لا دواء له
              وقائد ذي عمى يقتاد عميانا

              [ ص: 129 ]

              لقد بدأ العدل يتراجع في المجتمع الإسلامي الأول مع انتهاء عهد الخلفاء الراشدين، وبداية العهد الأموي، حيث أخذ رجال الحكم وصناع القرار، في بعض المواقف، بإخضاع وتطويع بعض الفقهاء والعلماء لتوجيه ولاءاتهم لأشخاصهم بدلا من الالتزام بتعاليم الدين [4] ، لتبدأ مرحلة الجبرية في التاريخ الإسلامي والتي أخبر بها الصادق المصدوق، عليه السلام، ويسخر من ذلك بألم عبدالله بن هشام السلولي فيقول [5] :


              فإن تأتوا برملة أو بهند     نبايعها أميرة مؤمنينا
              إذا ما مات كسرى قام كسرى     نعد ثلاثة متناسقينا
              لقد ضاعت رعيتكم وأنتم     تصيدون الأرانب غافلينا



              حدث ذلك وتكرر حدوثه، رغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حذر من الوقوع فيه، يروي عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني أخاف على أمتي من أعمال ثلاثة، قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: زلة عالم، وحكم جائر، وهوى متبع ) [6] ، ويقـول، عليه أفضل الصـلاة والسلام: ( ما من أحـد يكون على شيء مـن أمور هذه الأمة، قلت أم كثرت، فلا يعدل فيهم، إلا كبه الله في النار ) [7] ، وقد قال الشاعر [8] : [ ص: 130 ]


              ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني     حتى أرى دولـة الأوغـاد والسفـل
              تقـدمتني أناس كان شأوهـم     وراء خطوي لو أمشي على مهل



              لا شك أن نمط الحكم الاستبدادي قد فتح الباب على مصراعيه لكل صور الظلم وأشكاله، الأمر الذي أدى إلى انحراف واقع المجتمعات الإسلامية عن الأنموذج الإسلامي الأصلي والحقيقي، وأصبحت الخلافة الإسلامية في بعض الحقب التاريخية أداة للظلم والطغيان والفساد، بعد أن كانت وسيلة لرفع الظلم ومحاربة الفساد والاستبداد وإحقاق الحق وتحقيق العدل ونشره [9] .

              واستمر مسلسل الظلم والطغيان، وأخذ صورا وأشكالا أكثر قسوة، وخصوصا ضد العلماء والفقهاء، فهناك قصة الحجاج مع سعيد بن جبير، والمـنـصـور العـبـاسـي مـع سـفـيـان الـثـوري وابن المقـفـع، والمـأمـون مـع أحـمـد ابن حنبل...إلخ [10] .

              وهكذا ضاعت تقاليد النبوة في الحكم، واستبدلت بتقاليد الطغاة والجبابرة: فرعون وكسرى وهرقل، وأصبح المجتمع الإسلامي يعيش الحالة، التي وصفها الشاعر الجاهلي بقوله [11] :


              بغاة ظالمين وما ظلمنا     ولكنا سنبدأ ظالمينا

              [ ص: 131 ]

              لقد أفضى تعظيم الأفراد والشخوص وبالذات الحكام منهم، إلى استشراء الظلم والطغيان خلال فترات من الحكم الإسلامي، فعزلت الحياة عن الفكرة الجوهر: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وعن معظم ما يرتبط بها من تعاليم وقيم وضوابط وتوجيهات، فغاب دور الجماهير والعلماء والفقهاء، وانفرد بعض السلاطين بالحكم علانية وتعمدا، وأصبح مفهوم الحكم عند بعض حكام المسلمين مختزلا في مقولة السلطان المعز لدين الله الفاطمي: "هذا حسبي" مشيرا إلى المال، "وهذا نسبي" مشيرا إلى سيفه، وهذا يعني أن السيف لمن يعارض أو يعترض، والمال للمقربين منه ولمن يؤيده [12] .

              لقد استلهم كثير من الطغاة لاحقا من هذه المقولة، فكرة الحكم من خلال تحالف السلطة والمال، ليحكموا رعيتهم بالنار والحديد تارة، وشراء الذمم والضمائر تارة أخرى، وبما يخدم مصالحهم وتوجهاتهم بعيدا عن تعاليم الدين وضوابطه.

              وتواصل الظلم والطغيان، وسقطت الخلافة العثمانية، وقسم العالم الإسلامي إلى دويلات خضعت للسيطرة الاستعمارية، ونصبت حكومات من قبل المستعمر تسهر على مصالحه وترعاها، وبقي الطغيان جاثما على صدور الجماهير بكل أساليبه القديمة والحديثة المطورة، مستلهما استمراره وبقاءه من [ ص: 132 ]

              تعاليم كتاب: (الأمير) لـ"ميكافللي"، وعلى رأسها أن الحكم غاية يقتضي الوصول إليه والمحافظة عليه أن تستخدم كل الوسائل والأدوات الممكنة والمتاحة مهما كانت قذارتها.

              استمر هذا النمط من المجتمعات، التي يعبد الناس فيها أسباب القوة، ومن يملكها، قائما حتى وقتنا الحاضر، بعد أن فصل الدين عن الحياة، وبعد أن أصبحت العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية لا تقوم على الأخوة، وإنما على سيطرة قلة وخضوع واستعباد كثرة، واستمر الطغيان والظلم في مطاردته للمصلحين الداعين إلى تطبيق شرع الله تعالى في أرضه وعباده، فلم يعد هناك مكان للأطهار والشرفاء والمخلصين، ولا للعلماء والفقهاء، وكأن الزمن يعيد نفسه، فمأساة ما حدث مع نبي الله تعالى لوط، عليه السلام، يتكرر، وفي كل حلقات المسلسل التاريخي، فعندما كان هذا النبي الكريم يدعو قومه إلى العفاف والابتعاد عن الظلم وتحكيم شرع الله، كان يقال له من قومه [13] : ( أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) (الأعراف:82).

              وهكذا حورب الأنبياء والمصلحون، وهكذا تم حصر الدين واختزاله في العبادات، التي أصبحت بمرور الزمن عادات والتي بدورها لا تصنع مجتمعا مسلما، وغيبت معظم تعاليم الدين، التي تركز على المعاملات، وتدعو إلى العزة والكرامة والوقوف في وجه الظلم والطغيان والاستبداد. [ ص: 133 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية