الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الفصل الأول

              الظلم: المفهوم اللغوي والمعنى الشرعي

              - توطئة:

              كان الإسلام بمثابة ثورة شاملة على حياة العرب في الجاهلية في جميع جوانبها، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتي كانت تقوم في كثير من حيثياتها على الظلم والجور، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم ليقيم على أنقاض هذه الجاهلية مجتمع العدل والحرية والمساواة وفق مبدأ التوحيد: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".

              لقد كانت شهادة "لا إله إلا الله" وما زالت تحريرا للإنسان وعقله من سلطان الخرافة والوهم والأسطورة، وهي أيضا تحرير للإنسان من سلطة أخيه الإنسان، فالدين بكل مكوناته ينتهي بالناس إلى عبادة الله تعالى، التي هي قمة الحرية والتحرر، وكلمات ربعي بن عامر رضي الله عنه لرستم المجوسي مازال، وسيبقى، صداها يتردد في أرجاء المعمورة، وعلى مسامع كل الظلمة والجبابرة: "إن الله بعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".

              الإسلام والظلم ضدان لا يلتقيان؛ لان الظلم ظلمة ترين على القلب، فتمنع الناس من رؤية طريق الحق والصواب، التي هي طريق الإسلام؛ وأضمن [ ص: 39 ] سبيل لمواجهة الظلم بصوره وأشكاله المختلفة هي عقيدة التوحيد، التي تنمي في القلوب حب العدل وأهله ونصرته، فشعور المؤمن بالرقابة يحثه على محاسبة نفسه، فينتصر للعدل وينصره، ويقف سدا منيعا في وجه الظلم وأهله، والمؤمن يستمد حبه للعدل من عقيدته القائمة عليه، يقول ابن الجوزي، رحمه الله تعالى: "وإنما ينشأ الظلم من ظلم القلب، لأنه لو استنار بنور الهدى لنظر في العواقب" [1] .

              لذلك نجد أن جل اهتمام الدعاة والعلماء والمصلحين وجهدهم يتركز دائما ومن البداية على بناء العقيدة في قلوب الناس وعقولهم، من أجل توحيد الله تعالى في الألوهية والربوبية، وعبادته وحده، والرضا بحكمه، والركون إليه والميل نحوه، والاستسلام لإرادته ومشيئته، وتجنب عبادة الطواغيت والأوثان البشـرية والخضوع لهـم، فالقـلب المشبـع بعقيـدة التوحيـد لا يخاف الطغاة، ولا يرهب الظلمة وجبروتهم.

              وقصة سحرة فرعون يوم الزينة هي عبرة وموقف على هذا الصعيد، فبعد أن كانوا يتملقون الطاغية فرعون من أجل قليل من متاع الدنيا، قذف الله تعالى في صدورهم الإيمان وزينه في قلوبهم، فآمنوا بعقيدة التوحيد، التي جاء بها موسى، عليه السلام، فكانت النتيجة أن أصبحت الدنيا وما فيها في نظرهم لا تساوي شيئا، لذلك نجدهم رغم تهديد الطاغية لهم بالصلب والقتل، يجيبونه: ( قالوا [ ص: 40 ] لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) (طه:72)، هذه هي عقيدة التوحيد التي فعلت فعل السحر، وهذ هي العقيدة التي تقود إلى زوال الظلم والطغيان وتلاشيهما [2] .

              والمتتبع لمعطيات الشرع الحنيف، يجد أن أصول الشورى في الإسلام تركز على جوانب مهمة خاصة بالحكم، فالعدل هو قوام الحكم بين المسلمين وغير المسلمين، والقرآن هو النور الذي يتم به القضاء على أساس من العدل والإنصاف، ودفع الظلم والعدوان عن النفس والعرض والمال حق، ولا جناح على من انتصر لنفسه ورد عنها الظلم، والسبيل إنما على الذين يظلمون الناس ويفسدون في الأرض، فالبغي محرم بكل أنواعه، والقصاص حق لمن وقع عليه ظلم، أو له العفو والفضل وبدون تجاوز [3] .

              يقود ابتعاد الناس عن عبادة الله تعالى- وهو عين الظلم- إلى ممارسة الفساد بكل صنوفه دون خوف أو وجل، وانتشار الظلم في المجتمعات الإسلامية لا يعني أبدا أن تعاليم الإسلام لا تفي بحاجات الناس من حريات وحقوق، وإنما الإصرار والتعمد في مخالفة هذه التعاليم هي السر في ذلك [4] ، فمنذ أن أخذ الناس بالابتعاد، أفرادا وجماعات ومجتمعات، عن تطبيق هذه التعاليم في دقائق حياتهم اليومية وفي كل جوانب الحياة، بدأ داء الظلم يسري [ ص: 41 ] في الجسد الاجتماعي، فتصلبت الشرايين وانهارت القوى، وأصبح الجسد عاجزا واهنا، وتكالبت عليه كل الأمراض الاجتماعية والقوى الاستعمارية الطامعة، فكان الضعف والهزائم والانكسار والتقهقر إلى ذيل قافلة الحضارة.

              حال الانحطاط، الذي تعيشه الأمة يرتبط بتوقف فاعلية الشرع الحنيف الناجمة عن توقف فاعلية أهله أنفسهم، الذين دخل على قلوب أغلبهم عقائد أخرى شاركت عقيدة الإسلام في أفئدتهم، لذلك يرى الماوردي أن صلاح الدنيا وانتظام أمورها يتحقق من خلال مجموعة من القواعد من أهمها [5] :

              قاعدة العدل: والعدل هنا يعني العدل الشامل الذي يدفع إلى طاعة الله تعالى، ويصنع الود بين الناس، ويؤدي إلى عمران البلاد، ونمو المال، وتكاثر النسل، ويؤمن به من جور السلطان، هذا الجور الذي يقود إلى خراب البلاد وفساد العباد، وفي ذلك ورد الأثر: "بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد" [6] .

              وهذه الأمة، التي كرمها الله فجعلها أمة الرسالة يستبد بها أرذلهم: حارثهم ووارثهم سواء... هذه الأمة، التي حررت شعوب العالم القديم من ظلم الفرس والروم والقوط والمغول تستعبدها أنظمة ظالمة، متحالفة مع المستعمر الظالم وتستمد منه الشرعية والسلاح والمال للتطاول على الناس والحقوق [7] . [ ص: 42 ]

              لقد انتشر العمران في المجتمع الإسلامي الأول واتسع، وتزايدت ثروة الأمة، وتضاعفت قوتها العسكرية، واجتمعت كلمة الأمة، وسادت الأخوة والوحدة، وزاد الاهتمام بالعلوم والصناعات، نتيجة نفاذ أحكام الشرع، وتطبيق أصول العدل والشورى، كل ذلك عمل على ظهور المجتمع الإسلامي المتمدن في أبهى صوره وأرقى درجات رقيه، وهذا ما يؤكد حقيقة أن "العلم والعدل هما أساس التقدم، وأن الظلم والجهل هما أصل التقهقر" [8] .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية