الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه أحمد بن محمد بن مقسم ، قال : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول : سمعت الحارث بن أسد ، يقول : اعلم بأنك لست بشيء إلا بالله ، وليس لك شيء إلا ما نلت من رضوان الله ، وأنك إن اتقيته في حقه وقاك شر من دونه ، ولا يصلح عبد إلا أصلح الله بصلاحه سواه ، ولا يفسد عبد إلا أفسد الله بفساده غيره ، فأعداؤك من نفسك طبائعك السيئة ، وأولياؤك من نفسك طبائعك الحسنة ، فقاتل ما فيك من ذلك ببغض ، [ ص: 90 ] وقاتل أعداءك بأوليائك ، وغضبك بحلمك ، وغفلتك بتفكرك ، وسهوك بتنبهك ، فإنك قد منيت وابتليت من معاني طبائعك ، ومكابدة هواك ، وعليك بالتواضع فالزمه ، واعلم أن لك من العون عليه أن تذكر الذي أنت فيه ، والذي تعود إليه ، والتواضع له وجوه شتى ، فأشرفها وأفضلها أن لا ترى لك على أحد فضلا ، وكل من رأيت كن له بالضمير والقلب مفضلا ، ومن رأيت من أهل الخير رجوت بركته والتمست دعوته ، وظننت أنه إنما يدفع عنك به ، فهذا التواضع الأكبر ، والتواضع الذي يليه أن يكون العبد متواضعا بقلبه ، متحببا إلى من عرفه ، غير محتقر لمن خالفه ، ولا مستطيلا على من هو بحضرته ، وليس بقريب منه ، وأما التواضع الثالث فهو اللازم للعباد ، الواجب عليهم ، الذي لو تركوه كفروا ، فالسجود لله ، وبذلك جاء الحديث : " إنه من وضع جبهته لله فقد برئ من الكبر " وقد من الله تعالى به علينا وعليكم ، أبلغنا الله وإياكم التواضع الأكبر " .

              أخبرنا محمد بن أحمد - في كتابه - وحدثني عنه أولا عثمان بن محمد ، ثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الله بن ميمون ، قال : سمعت الحارث بن أسد ، يقول : " افهم ما أقول لك ، وفرغ للفكرة فيه عقلك ، وأدم له توهمك ، وتوهمه بذهنك ، وأحضر لبك ، واشتغل بذكره وبقطع كل مذكور سواه ، ومتوهم غيره ، فإنا خلقنا للبلوى والاختبار ، وأعد لنا الجنة أو النار ، فعظم ذلك الخطر ، وطال به الحزن لمن عقل ، واذكر حتى تعلم أين يكون المصير والمستقر ، ذلك بأنه قد عصى الرب وخالف المولى ، وأصبح وأمسى بين الغضب والرضا لا يدري أيهما قد حل به ووقع ، فعظم لذلك غمه ، واشتد به كربه ، وطال له حزنه ، حتى يعلم كيف عند الله حاله ، فإليه فارغب في التوفيق ، وإياه فسل العفو عن الذنوب ، واستعن بالله في كل الأمور ، فالعجب كيف تقر عينك أو يزول الوجل عن قلبك ، وقد عصيت ربك والموت نازل بك لا محالة بكربه وغصصه ونزعه وسكراته ، فكأنه قد نزل بك وشيكا ، فتوهم نفسك وقد صرعت للموت صرعة لا تقوم منها إلا إلى الحشر إلى ربك ، فتوهم ذلك بقلب فارغ وهمة [ ص: 91 ] هائجة من قلبك بالرحمة لبدنك الضعيف ، وارجع عما يكره مولاك وترضا عسى أن يرضى عنك ، واعتبه ، واستقله عثراتك ، وابك من خشيته عسى أن يرحم عبراتك ، فإن الخطب عظيم ، والموت منك قريب ، ومولاك مطلع على سرك وعلانيتك ، واحذر نظره إليك بالمقت والغضب وأنت لا تشعر ، فأجل مقامه ، ولا تستخف بنظره ، ولا تتهاون باطلاعه ، واحذره ولا تتعرض لمقته ، فإنه لا طاقة لك بغضبه ، ولا قوة لك بعذابه " .

              أخبرنا محمد بن أحمد ، وحدثني عنه عثمان ، ثنا أحمد بن محمد بن مسروق ، قال : سئل الحارث بن أسد عن مقام ذكر الموت : ما هو عندك ؟ مقام عارف أو مستأنف ؟ فقال : " ذكر الموت أولا مقام المستأنف وآخرا مقام العارف ، قيل له : بين من أين قلت ذلك ؟ قال : نعم أما المستأنف فهو المبتدئ الذي يغلب على قلبه الذكر ، فيترك الزلل مخافة العقاب ، فكلما هاج ذكر الموت من قلبه ماتت الشهوات عنده ، وأما العارف فذكره للموت محبة له اختيارا على الحياة ، وتبرما بالدنيا التي قد سلا قلبه عنها شوقا إلى الله ولقائه ، رجاء أمل النظر إلى وجهه ، والنزول في جواره لما غلب على قلبه من حسن الظن بربه ، كما قيل :


              طال شوق الأبرار إلى الله والله إلى لقائهم أشوق



              قيل له : فكيف نعت ذكر الموت في قلب المستأنف وقلب العارف ؟ قال : المستأنف إذا حل بقلبه ذكر الموت كرهه وتخير البقاء ليصلح الزاد ، ويرم الشعث ، ويهيئ الجهاز للعرض والقدوم على الله ، ويكره أن يفاجئه الموت ، ولم يقض نهمته في التوبة والاجتهاد والتمحيص ، فهو يحب أن يلقى الله على غاية الطهارة ، وأما نعته في قلب العارف فإنه إذا خطر ذكر ورود الموت بقلبه صادفت منه موافقة مراده ، وكره التخلف في دار العاصين ، وتخير سرعة انقضاء الأجل وقصر الأمل ، فقيرة إليه نفسه ، مشتاق إليه قلبه ، كما روي عن حذيفة بن اليمان حين حضره الموت ، قال : " حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم ، اللهم إن كنت تعلم أن الموت أحب إلي من الحياة فسهل علي الموت حتى ألقاك " قال : وسئل الحارث عن قول أبي سليمان الداراني : ما رجع [ ص: 92 ] من وصل ، ولو وصلوا ما رجعوا ، فقال : قول أبي سليمان يحتمل أجوبة كثيرة ، قيل : اشرح منها شيئا ، قال : يمكن أن يكون هذا من أبي سليمان على طريق التحريض للمريدين لئلا يميلوا إلى الفتور ، ويحترزوا من الانقطاع ، ويجدوا في طلب الاتصال والقربة إلى الله - عز وجل - ويحتمل أن يكون أراد عاليا : ما رجع إلى الزلل من وصل إلى صافي العمل ، ويحتمل : ما رجع إلى وحشة الفتور من تقحم في المقامات السنية من الأمور ، ويحتمل : ما رجع إلى ذل عبودية المخلوقين من وصل إلى طيب روح اليقين ، واستند إلى كفاية الواثقين ، واعتمد على الثقة بما وعد رب العالمين ، فعلى هذه المعاني يحتمل الجواب في هذه المسألة على سائر المقامات ، فبات السائل تلك الليلة عند الحارث ، فلما أصبح قال الحارث : رأيت فيما يرى النائم كأن راكبا وقف وأنا أتكلم في هذه المسألة ، فقال - وهو يشير بيده - : ما رجع إلى الانتقاص من وصل إلى الإخلاص .

              قال : وسئل الحارث ، فقيل له : رحمك الله ، البلاء من الله للمؤمنين كيف سببه ؟ قال : البلاء على ثلاث جهات : على المخلطين نقم وعقوبات ، وعلى المستأنفين تمحيص الجنايات ، وعلى العارفين من طريق الاختبارات ، فقيل له : صف تفاوتهم فيما تعبدوا به ، قال : أما المخلطون فذهب الجزع بقلوبهم ، وأسرتهم الغفلة ، فوقعوا في السخط ، وأما المستأنفون فأقاموا لله بالصبر في مواطن البلاء حتى تخلصوا ونجوا منه بعد مكابدة ومؤنة ، وأما العارفون فتلقوا البلاء بالرضا عن الله - عز وجل - فيما قضى ، وعلموا أن الله عدل في القضاء فسروا بحلول المكروه لمعرفة عواقب اختيار الله لهم ، قيل له : فما معنى هذه الآية ؟ : ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ) أو لم يعلم ؟ قال : بلى قد علم ما يكون قبل أن يكون ، ولكن معنى قوله : ( حتى نعلم ) حتى نرى المجاهدين في جهادهم والصابرين في صبرهم ، وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل : إني لحفي بالمريدين لي ، وإن بعيني ما تحمل المتحملون من أجلي ، وما يكابد المكابدون في طلب رضائي ، أتراني أضيع لهم عملا ، أو أنسى لهم أثرا ؟ كيف وأنا ذو الجود أجود بفضلي على المولين عني ، [ ص: 93 ] فكيف بالمقبلين إلي ؟ قيل : رحمك الله ما الذي أفاد قلوب العارفين وأهل العقل عنه في مخاطبة الآية ؟ قال : تلقوا المخاطبة من الله بقوة الفهم عن الله حتى كأنهم يسمعون منه وأنه أقرب إليهم في وقت البلاء من أنفسهم إلى أبدانهم ، فعلموا أنهم بعينه فقووا على إقامة الصبر والرضا في حالة المحن إذ كانوا بعين الله ، والله تعالى يراهم ، فحين أسقطوا عن قلوبهم الاختيار والتملك باحتيال قوة ، ولجوا إليه وطرحوا الكنف بين يديه ، واستبسلت جوارحهم في رق عبوديته بين يدي مليك مقتدر ، فشال عند ذلك صرعتهم ، وأقال عثرتهم ، وأحاطهم من دواعي الفتور ، ومن عارض خيانة الجزع ، وأدخلهم في سرادق حسن الإحاطة من ملمات العدو ونزعاته وتسويله وغروره ، فأسعفهم بمواد الصبر منه ، ومنحهم حسن المعرفة والتفويض ، ففوضوا أمورهم إليه ، وألجئوا إليه همومهم ، واستندوا بوثيق حصن النجاة رجاء روح نسيم الكفاية ، وطيب عيش الطمأنينة ، وهدوء سكون الثقة ، ومنتهى سرور تواتر معونات المحنة ، وعظيم جسيم قدر الفائدة ، وزيادات قدر البصيرة ، وعلموا أنه قد علم منهم مكنون سرهم ، وخفي مرادهم ، ويكون ما حصل في القلوب من يقينهم ، وما أشارت إليه في بواطن أوهامها ، وسر غيبها ، فعظم منهم حرص الطلب ، وغاب منهم مكامن فتور الجد لمعرفة المعذرة فيهم ، فهؤلاء في مقامات حسن المعرفة وحالات اتساع الهداية ، وحسن بهاء البصيرة ، فاعتزوا بعزة الاعتماد على الله ، فقال له السائل : حسبي رحمك الله ، فقد عرفتني ما لم أكن أعرف ، وبصرتني ما لم أكن أبصر ، وكشفت عن قلبي ظلمة الجهل بنور العلم ، وفائدة الفهم ، وزيادات اليقين ، وثبتني في مقامي ، وزدتني في قدر رغبتي ، وروحتني من ضيق خاطري ، فأرشدك الله إلى سبيل النجاة ، ووفقك للصواب بمنه ورأفته ، إنه ولي حميد " .

              أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني ، قال : سمعت الجنيد ، يقول : سمعت أبا عبد الله الحارث بن أسد ، يقول - وسئل عن المراقبة لله وعن المراقب لربه - فقال : " إن المراقبة تكون على ثلاث خلال [ ص: 94 ] على قدر عقل العاقلين ومعرفتهم بربهم ، يفترقون في ذلك ، فإحدى الثلاث الخوف من الله ، والخلة الثانية الحياء من الله ، والخلة الثالثة الحب لله ، فأما الخائف فمراقب بشدة حذر من الله تعالى ، وغلبة فزع ، وأما المستحيي من الله فمراقب بشدة انكسار وغلبة إخبات ، وأما المحب فمراقب بشدة سرور وغلبة نشاط وسخاء نفس مع إشفاق ، لا يفارقه ، ولن تكاد أن تخلو قلوب المراقبين من ذكر اطلاع الرقيب بشدة حذر من قلوبهم أن يراهم غافلين عن مراقبته ، والمراقبة ثلاث خلال في ثلاثة أحوال : أولها التثبيت بالحذر قبل العمل بما أوجب الله ، والترك لما نهى الله عنه مخافة الخطأ ، فإذا تبين له الصواب بالمبادرة إلى العمل بما أوجب الله والترك لما نهى الله مخافة التفريط ، فإذا دخل في العمل فالتكميل للعمل مخافة التقصير ، فمن لم يثبت قبل العمل مخافة الخطأ فغير مراقب لمن يعمل له إذ كان لا يأمن من أن يعمل على غير ما أحب وأمر به ، ومن لم يبادر ويسارع إلى عمل ما يحب الله بعد ما تبين له الصواب ، فما راقب إذا بطأ عن العمل ، لمحبة من يراقبه ، إذ يراه متثبطا عن القيام بما أمر به ، ومن لم يجتهد في تكميل عمله فضعيف مقصر في مراقبة من يراقبه ، إذا قصر عن إحكام العمل لمن يعمل ، وقد علم أن الله جل ثناؤه يحب تكميله وإحكامه ، وقال : سبع خلال يكمل لها عمل المريد وحكمته : حضور العقل ، ونفاذ الفطنة ، وسعة العمل بغير غلط ، وقهر العقل للهوى ، وعظم الهم كيف يرضي الرب تعالى ، والتثبت قبل القول والعمل ، وشدة الحذر للآفات التي تشوب الطاعات ، وأقل المريدين غفلة أدومهم مراقبة مع تعظيم الرقيب ، والدليل على صدق المراقبة بإجلال الرقيب شدة العناية بالفطنة لدواعي العقل من دواعي الهوى ، والتثبيت بالنظر بنور العلم ، والتمييز بين الطاعة وما شابهها من الآفات ، وقوة العزم على تكميل المراقبة في الحظوة في عين المليك المطلع ، وشدة الفزع مما يكره خوف المقت ، والدليل على قوة الخوف شدة الإشفاق مما مضى من السيئات أن لا تغفر ، وما تقدم من الإحسان أن لا يقبل ، ودوام الحذر فيما يستقبل أن لا يسلم ، وعظم الهم من عظيم الرغبة ، وعظيم الرغبة من كبر المعرفة بعظيم قدر المرغوب فيه [ ص: 95 ] وإليه ، وسمو الهمة يخفف التعب والنصب ، ويهون الشدائد في طلب الرضوان ، ويستقل معه بذل المجهود بعظيم ما ارتفع إليه الهم ، والنشاط بالدوب دائم ، والسرور بالمناجاة هائج ، والصبر زمام النفس عن المهالك ، وإمساك لها على النجاة ، فاليقين راحة للقلوب من هموم الدنيا ، وكاسب لمنافع الدين كلها ، وحسن الأدب زين للعالم وستر للجاهل ، من قصر أمله حذر الموت ، ومن حذر الموت خاف الفوت ، ومن خاف الفوت قطع الشوق ، ومن قطع الشوق بادر قبل زوال إمكان الظفر ، فاجعل التيقظ واعظك ، والتثبت وكيلك ، والحذر منبهك ، والمعرفة دليلك ، والعلم قائدك ، والصبر زمامك ، والفزع إلى الله - عز وجل - عونك . ومن لم توسعه الدنيا غنى ، ولا رفعة أهلها شرفا ، ولا الفقر فيها صفة ، فقد ارتفعت همته ، وعزفت عن الدنيا نفسه ، من كانت نعمته السلامة من الآثام ، ورغب إلى الله في حوادث فوائد لمريد نقل عن الدنيا بقلبه ، ومن اشتد تفقده ما يضره في دينه وينفعه في آخرته ، وذكر اطلاع الله إليه ، ومثل عظيم هول المطلع ، وأشفق مما يأتي به الخير فقد صدق الله في معاملته ، وحقق استعمال ما عرفه ربه ، ومن قدم العزم لله على العمل بمحبته ، ووفاء لله بعزمه وجانب ما يعترض بقلبه من خطرات السوء ونوازع الفتن فقد حقق ما علم وراقب الله في أحواله .

              كهف المريد ، وحرزه التقوى ، والاستعداد عونه وجنته التي يدفع بها آفات العوارض ، وصور النوازل ، والحذر يورثه النجاة والسلامة ، والصبر يورثه الرغبة والرهبة ، وذكر كثرة سوالف الذنوب يورثه شدة الغم وطول الحزن ، وعظم معرفته بكثرة آفات العوارض في الطاعات تورثه شدة الإشفاق من رد الإحسان " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية