الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد ، قال : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول : سأل سائل الحارث بن أسد : ما بالي أغتم على ما يفوتني من العلم ولا أعمل بما استفدت منه ؟ قال : " لأنك لا تخاف عظيم حجة الله عليك فيما علمت ، وضيعت العمل لله فيما أوجبه عليك ، ولم تقدم العزم أن تقوم بما تستفيد من العلم فيما تستزيد منه ، وكان يحق عليك أن تكون [ ص: 96 ] بما علمت ، ولزمتك من الله أعظم الحجة ; لأنك إن تضيع حق الله وأنت لا تعلم خير من أن تضيع حق الله وأنت تعلم ; لأن الجاهل لا يؤتى بتعمد من قلبه ، ولا جرأة واستخفافا باطلاع ربه ، والعالم بما يأتي متعمدا ترك حق ربه بقلة رهبة من الله ، متهاون بنظر الله ، متعرض لسخطه ، وهو يعلم ويتشوق لحرمان جوار الله وهو يبصر ، فآثر القليل الفاني على العظيم الباقي ، وولى على النجاة من العذاب ، وسلك الطريق إلى عذاب الجحيم ، وسمحت نفسه بالجنة ، وأسلمها لأيدي العقوبة ، قلت : إني لا أقوى على الحلم عند الشتم والأذى ، فقال : ثقل عليك كظم الغيظ ، وخف عليك الاشتفاء ، قلت : مم ثقل علي كظم الغيظ وخف علي التشفي ؟ قال : لأنك تعد الحلم ذلا ، وتستعمل السفه أنفا ، قلت : فبم أقوى على كظم الغيظ ؟ قال : بصبر النفس ، وحبس الجوارح ، قلت : بم أجتلب صبر النفس وكف الجوارح ؟ قال : بأن تعقل وتعلم أن الحلم عز وزين ، والسفه ذل وشين ، قلت : كيف أعقل ذلك وقد حل بقلبي ضده فغلب عليه أني إن صبرت على كظم الغيظ كان ذلك إذلالا لي ممن آذاني ، ولزم قلبي الأنف أن يكون من شتمني قد قهرني وعجزت عن الانتقام منه وإشفاء غيظي ؟ قال : إنما لزم قلبك ذلك ; لأنك لم تعقل ظاهر قبح السفه منك ، وحسن ستر الحلم عليك ، وجزيل مثوبة الله لك في آخرتك ، قلت : وبم أعرف هاتين الخصلتين ؟ قال : أما قبح السفه وزوال حسن رد الحلم فيما ترى من أحوال شاتمك ومؤذيك بالغيظ والغضب من لونه وفتح عينيه ، وحمرة وجهه ، وانقلاب عينيه ، وكراهية منظره ، واستخفافه بنفسه ، وزوال السكينة والوقار عن بدنه ، فأنت تبين ذلك منه ، ويراه كل عاقل من فاعله ، فإذا بليت بذلك فاذكر ما أعد الله سبحانه وتعالى للكاظمين الغيظ من إيجاب محبته ، وجزيل ثوابه ، فإن الاشتفاء ينقضي سريعا ، ويبقى سوء عاقبته في آخرتك ، وكظم غيظك يسكن سريعا ، ويدخر ثواب الله بذلك في معاده ، ولا ينبغي للعاقل أن يرضى بدناءة نفسه وسوء رغبته ، بأن يكون ممن ترضيه [ ص: 97 ] اللمحة ، فيستشرق لها وجهه فرحا ، وتغضبه الكلمة فيستطير من أجلها سفها حتى يظلم لها وجهه ، وتضطرب لها فرائصه ، وإنما هي كلمة لم تعد قائلها إلى المشتوم بها ، ولكنها أزرت بقائلها ، وأوجبت السفه عليه في آخرته ، واستخف بنفسه ، ولم تضر من أسمعها في دين ولا دنيا ، فقائلها والله يستحق أن يرحم لما قد أنزل بنفسه ووضع من قيمته وقدره ، وعصى بها ربه ، وعلى المشتوم بها الشكر لله ؛ إذ لم يسلمه الله ولم يخذله ، حتى يصير مثل حال شاتمه مع ما قد صار له من التبعة في رقبته يأخذها منه في يوم فاقته وفقره ، وأول ما يرث المريد العارف بربه معرفته بدائه ودوائه في عقله ورأيه ، والسليم القلب المتيقظ عن ربه الغافل عن عيوب العباد ، المتفقد لعيوب نفسه ، وأنس المريد الوحشة من العباد ، مع دوام الذكر لله بقلبه ، وأكرم أخلاق المريد إكرامه نفسه عن الشر ودناءة الأخلاق ، وعظيم الهمة بالظفر بما يرضي الله يطير معه النوم ، ويقل معه النسيان ، ومن صدق العالم في علمه اهتمامه بمعرفة معاني الزوائد ، ليقوم لربه بحسن الرعاية ، وطلب الصمت مع الفكرة ، والأنس بالعزلة يبعث على طلب معاني الحكمة ، ودوام التوهم بنظر القلب إلى شدائد القيامة يزول به السرور بالدنيا ، ويورث القلب الانكسار والبكاء به ، ويعمل على الاستعداد للعرض الأكبر والسؤال الأعظم " .

              أخبرنا محمد بن أحمد - في كتابه - أخبرني أحمد بن عبد الله بن ميمون ، قال : قال الحارث بن أسد : " أصفى الأشياء من كل آفة - بل أن لا تقاربها الآفات - النصح لله ; لأن الناصح متى قبل خطرة من رياء أو عجب أو غير ذلك مما كره الله فقد خرج من النصح بقدر قبوله لما يكره ربه ، وأهون الأشياء وأكثرها لدواعي الهوى ذكر عظيم سوء العاقبة في تعجيل اللذة للأشياء ، وأعون على التحمل للمكروه ذكر عظيم العاقبة في ثواب ما يحمله العبد من المكاره في التقرب إلى الله - عز وجل - وأعون الأشياء على استجلاب الأحزان طول التوحش والانفراد من الخلق ، مع طول الفكر ودوامه في عواقب الأمور ليوم العرض ، ممن لم يمكنه الخلوة والانفراد ، وطول الصمت مع دوام الذكر للرقيب لما أحب من المحبوب والمكروه ، وأجلب الأشياء لتيقظ القلب من [ ص: 98 ] شهوة التقدم في إلزام القلب الحذر من الغفلة عن الرب - عز وجل - وأجلب الأشياء للذكر وأطرده للنسيان شدة العناية بعمران القلب بذكر المولى ، لأنه إذا قدم العناية وألزمها قلبه لا يغفل قلبه عن ذكر المولى ، هاج للذكر وتفرغ عن النسيان ، قال : وسئل الحارث عما ينال به الإخلاص ، فقال : ينال بثلاث خلال ، والمخلص في بعضها أقوى من بعض ، ودواعي الرياء عليه أقل وأضعف ، وهو في بعضها أضعف إخلاصا ، والدواعي عليها أكبر وأقوى ، فأعلاها التي يكون بها المخلص أقوى المخلصين ، والخطرات عليه أقل وأضعف - تعظيم قدر الرب وإجلاله ، واستصغار قدر المخلوقين أنهم لا يستأهلون أن يتقرب إليهم بطاعة الرب ، حتى يضعهم العبد بحيث وضعهم الله من الحاجة والفاقة والمسكنة ، إذ خلقهم المولى من ملك الضر والنفع ، ولم يجعل لأحد من الخلق شركة في الأشياء ، ولا يليق بهم ذلك ، وذلك مستحيل أن يملك العبد المحدث مع القديم الأول مثقال ذرة لا أصغر ولا أكبر ، ولا يملك ضرا ولا نفعا ، فإن أعظم قدر الرب بقلبه ، وأنزل عباده بالمنزل الذي هم به ، انصرف قلبه عن طلب حمد المخلوقين ، إذ عرف قدرهم ، وانصرفت نفسه عنهم في طلب كل منفعة دنيا وآخرة ، وارتاح قلبه لطلب حمد الله والتحبب إلى الله ، إذ عرف قدره وأن إليه حاجته في الدنيا والآخرة ، وأنه لا ينال منفعة فيهما إلا منه ، وأنه أهل أن يرجى ويؤمل جوده وكرمه ، فإن لم يقو على هذه الخلة ، فالخلة الثانية أن يذكر اطلاع الله على ضميره ، وهو يريد بطاعته حمد عبد مملوك ضعيف يتحبب إليه بالمقت إلى مولاه ، ويتقرب إليه بالتباعد من سيده ، ويحظى في عين عبد مملوك ضعيف يبلى ويموت بالسقوط من عين الإله الذي لا يموت ، فإنه حينئذ يستكين عقله ويخشع طبعه من قبول كل خطرة تدعوه إلى إرادة المخلوقين بطاعة ربه ، فإن لم يقو على هذه الخلة ، فالخلة الثالثة أن يرجع إلى نفسه بالرحمة لها والإشفاق عليها من حبط عمله في يوم فاقته وفقره ، فيبقى خاسرا قد حبط إحسانه وخسر عمله ، ثم لا يأمن أن يكون ذلك لو أخلصه لرجحت حسناته على سيئاته قبحا لها إذا أراد به العباد ، فتبقى حسناته خفيفة [ ص: 99 ] وسيئاته راجحة ، فيؤمر به إلى عذاب الله ، فيتلهف أن لا يكون أخلصه لربه ، فنجا من عذاب الله مع سؤال الله والتوبيخ منه والتعيير إذا أراد به العباد ، ولها عنه تعالى ، وتقرب إليهم بالتباعد منه " .

              أخبرنا محمد بن أحمد - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد - قبل أن لقيته - ثنا أحمد بن محمد بن مسروق ، قال أبو عبد الله الحارث بن أسد ، وسئل ما علامة محبة الله للعبد ؟ فقال للسائل : ما الذي كشف لك عن طلب علم هذا ؟ فقال : قوله تعالى : ( إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) فعلمت أن علامة محبة العبد لله اتباع رسوله ، ثم قال : ( يحببكم الله ) فما علامة محبة الله للعبد ؟ فقال : " لقد سألت عن شيء غاب عن أكثر القلوب ، إن علامة محبة الله للعبد أن يتولى الله سياسة همومه ، فيكون في جميع أموره هو المختار لها ، ففي الهموم التي لا تعترض عليها حوادث القواطع ، ولا تشير إلى التوقف ؛ لأن الله هو المتولي لها ، فأخلاقه على السماحة ، وجوارحه على الموافقة ، يصرخ به ويحثه بالتهدد والزجر ، فقال السائل : وما الدليل على ذاك ؟ فقال : خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أحب الله عبدا جعل له واعظا من نفسه ، وزاجرا من قلبه ، يأمره وينهاه ، " فقال السائل : زدني من علامة محبة الله للعبد ، قال : ليس شيء أحب إلى الله من أداء الفرائض بمسارعة من القلب والجوارح ، والمحافظة عليها ، ثم بعد ذاك كثرة النوافل ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يقول الله تعالى : " ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته " ، فقال السائل : رحمك الله صف لي من علامات وجود قلبه ، قال : محبوسة يا فتى في سر الملاطفة ، مخصوصة بعلم المكاشفة ، مقلبة بتنعم النظر في مشاهدة الغيب ، وحجاب العز ، ورفعة المنعة ، فهي القلوب التي أسرت أوهامها بعجب نفاذ إتقان الصنع ، فعندها تصاعدت المنى ، وتواترت على جوارحها فوائد الغنى ، فانقطعت النفوس عن كل ميل إلى راحة ، وانزعجت الهموم وفرت من [ ص: 100 ] الرفاهة ، فنعمت بسرائر الهداية ، وعلمت طرق الولاية ، وغذيت من لطيف الكفاية ، وأرسلت في روضة البصيرة ، وأحلت القلوب محلا نظرت فيه بلا عيان ، وجالت بلا مشاهدة ، وخوطبت بلا مشافهة ، فهذا يا فتى صفة أهل محبة الله من أهل المراقبة والحياء والرضا والتوكل ، فهم الأبرار من العمال ، وهم الزهاد من العلماء ، وهم الحكماء من النجباء ، وهم المسارعون من الأبرار ، وهم دعاة الليل والنهار ، وهم أصحاب صفاء التذكار ، وأصحاب الفكر والاعتبار ، وأصحاب المحن والاختبار ، هم قوم أسعدهم الله بطاعته ، وحفظهم برعايته ، وتولاهم بسياسته ، فلم تشتد لهم همة ، ولم تسقط لهم إرادة ، همومهم في الجد والطلب ، وأرواحهم في النجاة والهرب ، يستقلون الكثير من أعمالهم ، ويستكثرون القليل من نعم الله عليهم ، إن أنعم عليهم شكروا ، وإن منعوا صبروا ، يكاد يهيج منهم صراخ إلى مواطن الخلوات ، ومعابر العبر والآيات ، فالحسرات في قلوبهم تتردد ، وخوف الفراق في قلوبهم يتوقد ، نعم يا فتى ، هؤلاء قوم أذاقهم الله طعم محبته ، ونعمهم بدوام العذوبة في مناجاته ، فقطعهم ذلك عن الشهوات ، وجانبوا اللذات ، وداموا في خدمة من له الأرض والسماوات ، فقد اعتقدوا الرضا قبل وقوع البلا ، ومنقطعين عن إشارة النفوس ، منكرين للجهل المأسوس ، طاب عيشهم ، ودام نعيمهم ، فعيشهم سليم ، وغناهم في قلوبهم مقيم ، كأنهم نظروا بأبصار القلوب إلى حجب الغيوب فقطعوا ، وكان الله المنى والمطلوب ، دعاهم إليه فأجابوه بالحث والجد ودوام السير ، فلم تقم لهم أشغال إذ استبقوا دعوة الجبار ، فعندها يا فتى غابت عن قلوبهم أسباب الفتنة بدواهيها ، وظهرت أسباب المعرفة بما فيها ، فصار مطيتهم إليه الرغبة ، وسائقهم الرهبة ، وحاديهم الشوق ، حتى أدخلهم في رق عبوديته ، فليس تلحقهم فترة في نية ، ولا وهن في عزم ، ولا ضعف في حزم ، ولا تأويل في رخصة ، ولا ميل إلى دواعي غرة ، قال السائل : أرى هذا مرادا بالمحبة . قال : نعم يا فتى ، هذه صفة المرادين بالمحبة ، فقال : كيف المحن على هؤلاء ؟ فقال : سهلة في علمها ، صعبة في اختيارها ، فمحنهم على قدر قوة إيمانهم ، قال : فمن أشدهم محنا ؟ قال : [ ص: 101 ] أكثرهم معرفة وأقواهم يقينا وأكملهم إيمانا ، كما جاء في الخبر : " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية