الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          لا

                                                          لا : الليث : لا حرف ينفى به ويجحد به ، وقد تجيء زائدة مع اليمين كقولك : لا أقسم بالله . قال أبو إسحاق في قول الله عز وجل : لا أقسم بيوم القيامة وأشكالها في القرآن : لا اختلاف بين الناس أن معناه أقسم بيوم القيامة ، واختلفوا في تفسير لا فقال بعضهم : لا لغو ، وإن كانت في أول السورة ، لأن القرآن كله كالسورة الواحدة لأنه متصل بعضه ببعض . وقال الفراء : لا رد لكلام تقدم كأنه قيل ليس الأمر كما ذكرتم . قال الفراء : وكان كثير من النحويين يقولون لا صلة ، قال : ولا يبتدأ بجحد ثم يجعل صلة يراد به الطرح ، لأن هذا لو جاز لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه ، ولكن القرآن العزيز نزل بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار ، فجاء الإقسام بالرد عليهم في كثير من الكلام المبتدأ منه وغير المبتدأ كقولك في الكلام : لا والله لا أفعل ذلك ، جعلوا لا ، وإن رأيتها مبتدأة ، ردا لكلام قد مضى . فلو ألغيت لا مما ينوى به الجواب لم يكن بين اليمين التي تكون جوابا واليمين التي تستأنف فرق . وقال الليث : العرب تطرح لا وهي منوية كقولك : والله أضربك ، تريد والله لا أضربك; وأنشد :

                                                          وآليت آسى على هالك وأسأل نائحة ما لها

                                                          . أراد : لا آسى ولا أسأل . قال أبو منصور : وأفادني المنذري عن اليزيدي عن أبي زيد في قول الله عز وجل : يبين الله لكم أن تضلوا قال : مخافة أن تضلوا وحذار أن تضلوا ، ولو كان يبين الله لكم أن لا تضلوا لكان صوابا . قال أبو منصور : وكذلك أن لا تضل وأن تضل بمعنى واحد . قال : ومما جاء في القرآن العزيز من هذا قوله عز وجل : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا يريد أن لا تزولا ، وكذلك قوله عز وجل : أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون أي : أن لا تحبط . وقوله تعالى : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا معناه : أن لا تقولوا ، قال : وقولك : أسألك بالله أن لا تقوله وأن تقوله ، فأما أن لا تقوله فجاءت لا لأنك لم ترد أن يقوله . وقولك : أسألك بالله أن تقوله سألتك هذا فيها معنى النهي ، ألا ترى أنك تقول في الكلام والله أقول ذلك أبدا ، والله لا أقول ذلك أبدا ؟ لا هاهنا طرحها وإدخالها سواء وذلك أن الكلام له إباء وإنعام ، فإذا كان من الكلام ما يجيء من باب الإنعام موافقا للإباء كان سواء وما لم يكن لم يكن . ألا ترى أنك تقول : آتيك غدا وأقوم معك فلا يكون إلا على معنى الإنعام ؟ فإذا قلت : والله أقول ذلك على معنى والله لا أقول ذلك صلح ، وذلك لأن الإنعام والله لأقولنه والله لأذهبن معك لا يكون والله أذهب معك وأنت تريد أن تفعل ، قال : واعلم أن لا لا تكون صلة إلا في معنى الإباء ولا تكون في معنى الإنعام . ( التهذيب ) : قال الفراء والعرب تجعل لا صلة إذا اتصلت بجحد قبلها; قال الشاعر :

                                                          ما كان يرضى رسول الله دينهم     ‌والأطيبان أبو بكر ولا عمر

                                                          . أراد : والطيبان أبو بكر وعمر .

                                                          وقال في قوله تعالى : لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله قال العرب تقول : لا صلة في كل كلام دخل في أوله جحد أو في آخره جحد غير مصرح ، فهذا مما دخل آخره الجحد فجعلت لا في أوله صلة . قال : وأما الجحد السابق الذي لم يصرح به فقولك : ما منعك ألا تسجد ، وقوله : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون . وقوله عز وجل : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون وفي الحرام معنى جحد ومنع ، وفي قوله : وما يشعركم مثله ، فلذلك جعلت لا بعده صلة معناها السقوط من الكلام . قال : وقد قال بعض من لا يعرف العربية ، قال : وأراه عرض ب أبي عبيدة ، إن معنى غير في قول الله عز وجل : غير المغضوب عليهم معنى سوى وإن لا صلة في الكلام; واحتج بقوله :

                                                          في بئر لا حور سرى وما شعر     بإفكه ، حتى رأى الصبح جشر

                                                          قال : وهذا جائز لأن المعنى وقع فيما لا يتبين فيه عمله ، فهو جحد محض لأنه أراد في بئر ما لا يحير عليه شيئا ، كأنك قلت إلى غير رشد [ ص: 151 ] توجه وما يدري . وقال الفراء : معنى غير في قوله غير المغضوب معنى لا ، ولذلك زدت عليها لا كما تقول : فلان غير محسن ولا مجمل ، فإذا كانت غير بمعنى سوى لم يجز أن تكر عليه ، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول : عندي سوى عبد الله ولا زيد ؟ وروي عن ثعلب أنه سمع ابن الأعرابي قال في قوله :

                                                          في بئر لا حور سرى وما شعر

                                                          أراد : حؤور أي : رجوع ، المعنى أنه وقع في بئر هلكة لا رجوع فيها وما شعر بذلك كقولك : وقع في هلكة وما شعر بذلك ، قال : ويجيء لا بمعنى غير ; قال الله عز وجل : وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون ; في موضع نصب على الحال ، المعنى ما لكم غير متناصرين; قاله الزجاج . وقال أبو عبيد : أنشد الأصمعي لساعدة الهذلي : أفعنك

                                                          لا برق كأن وميضه     غاب تسنمه ضرام مثقب

                                                          . قال : يريد أمنك برق ، ولا صلة . قال أبو منصور : وهذا يخالف ما قاله الفراء : إن ( لا ) لا تكون صلة إلا مع حرف نفي تقدمه; وأنشد الباهلي للشماخ :

                                                          إذا ما أدلجت وضعت يداها     لها الإدلاج ليله لا هجوع

                                                          أي : عملت يداها عمل الليلة التي لا يهجع فيها ، يعني : الناقة ونفى بلا الهجوع ولم يعمل ، وترك هجوع مجرورا على ما كان عليه من الإضافة; قال : ومثله قول رؤبة :

                                                          لقد عرفت حين لا اعتراف

                                                          نفى بلا وتركه مجرورا; ومثله : أمسى ببلدة لا عم ولا خال وقال المبرد في قوله عز وجل : غير المغضوب عليهم ولا الضالين : إنما جاز أن تقع لا في قوله : ولا الضالين لأن معنى غير متضمن معنى النفي ، والنحويون يجيزون أنت زيدا غير ضارب لأنه في معنى قولك : أنت زيدا لا ضارب ، ولا يجيزون أنت زيدا مثل ضارب لأن زيدا من صلة ضارب فلا تتقدم عليه . قال : فجاءت لا تشدد من هذا النفي الذي تضمنه غير لأنها تقارب الداخلة ، ألا ترى أنك تقول : جاءني زيد وعمرو ، فيقول السامع : ما جاءك زيد وعمرو ؟ فجائز أن يكون جاءه أحدهما ، فإذا قال : ما جاءني زيد ولا عمرو فقد تبين أنه لم يأت واحد منهما . وقوله تعالى : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة يقارب ما ذكرناه وإن لم يكنه . غيره : لا حرف جحد وأصل ألفها ياء ، عند قطرب ، حكاية عن بعضهم أنه قال : لا أفعل ذلك فأمال لا . الجوهري : لا حرف نفي لقولك : يفعل ولم يقع الفعل ، إذا قال : هو يفعل غدا قلت لا يفعل غدا ، وقد يكون ضدا لبلى ونعم ، وقد يكون للنهي كقولك : لا تقم ولا يقم زيد ، ينهى به كل منهي من غائب وحاضر ، وقد يكون لغوا; قال العجاج : في بئر لا حور سرى وما شعر وفي التنزيل العزيز : ما منعك ألا تسجد أي : ما منعك أن تسجد ، وقد يكون حرف عطف لإخراج الثاني مما دخل فيه الأول كقولك : رأيت زيدا لا عمرا ، فإن أدخلت عليها الواو خرجت من أن تكون حرف عطف كقولك : لم يقم زيد ولا عمرو ، لأن حروف النسق لا يدخل بعضها على بعض ، فتكون الواو للعطف ولا إنما هي لتأكيد النفي . وقد تزاد فيها التاء فيقال : لات; قال أبو زبيد :

                                                          طلبوا صلحنا ولات أوان

                                                          وإذا استقبلها الألف واللام ذهبت ألفه كما قال : أبى جوده لا البخل ، واستعجلت نعم

                                                          به من فتى ، لا يمنع الجوع قاتله

                                                          قال : وذكر يونس أن أبا عمرو بن العلاء كان يجر البخل ويجعل لا مضافة إليه لأن لا قد تكون للجود والبخل . ألا ترى أنه لو قيل له : امنع الحق فقال : لا كان جودا منه ؟ فأما إن جعلتها لغوا نصبت البخل بالفعل وإن شئت نصبته على البدل . قال أبو عمرو : أراد أبى جوده لا التي تبخل الإنسان كأنه إذا قيل له : لا تسرف ولا تبذر أبى جوده قول لا هذه ، واستعجلت نعم فقال : نعم أفعل ولا أترك الجود . قال : حكى ذلك الزجاج لأبي عمرو ثم قال : وفيه قولان آخران على رواية من روى : أبى جوده لا البخل : أحدهما : معناه : أبى جوده البخل وتجعل لا صلة كقوله تعالى : ما منعك ألا تسجد ومعناه : ما منعك أن تسجد ، قال : والقول الثاني : وهو حسن ، قال : أرى أن يكون لا غير لغو وأن يكون البخل منصوبا بدلا من لا ، المعنى : أبى جوده لا التي هي للبخل ، فكأنك قلت : أبى جوده البخل وعجلت به نعم . قال ابن بري في معنى البيت : أي : لا يمنع الجوع الطعم الذي يقتله; قال : ومن خفض البخل فعلى الإضافة ، ومن نصب جعله نعتا للا ، ولا في البيت اسم ، وهو مفعول لأبى ، وإنما أضاف لا إلى البخل لأن لا قد تكون للجود كقول القائل : أتمنعني من عطائك ، فيقول المسؤول : لا ، ولا هنا جود . قال : وقوله : وإن شئت نصبته على البدل ، قال : يعني : البخل تنصبه على البدل من لا لأن لا هي البخل في المعنى ، فلا يكون لغوا على هذا القول .

                                                          لا التي تكون للتبرئة : النحويون يجعلون لها وجوها في نصب المفرد والمكرر وتنوين ما ينون وما لا ينون ، والاختيار عند جميعهم أن ينصب بها ما لا تعاد فيه كقوله عز وجل : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه أجمع القراء على نصبه . وقال ابن بزرج : لا صلاة لا ركوع فيها ، جاء بالتبرئة مرتين ، وإذا أعدت لا كقوله : لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة فأنت بالخيار ، إن شئت نصبت بلا تنوين ، وإن شئت رفعت ونونت ، وفيها لغات كثيرة سوى ما ذكرت جائزة عندهم . وقال الليث : تقول : هذه لاء مكتوبة فتمدها لتتم الكلمة اسما ، ولو صغرت لقلت : هذه لوية مكتوبة إذا كانت صغيرة الكتبة غير جليلة . وحكى ثعلب : لويت لاء حسنة عملتها ، ومد لا لأنه قد صيرها اسما ، والاسم لا يكون على حرفين وضعا ، واختار الألف من بين حروف المد واللين لمكان الفتحة ، قال : وإذا نسبت إليها قلت : لووي ، وقصيدة لووية : قافيتها لا . وأما قول الله عز وجل : فلا اقتحم العقبة فلا بمعنى فلم كأنه قال : فلم يقتحم العقبة ، ومثله : فلا صدق ولا صلى إلا أن لا بهذا المعنى إذا كررت أسوغ وأفصح منها إذا لم تكرر; وقد قال الشاعر :

                                                          إن تغفر اللهم تغفر جما [ ص: 152 ]     وأي عبد لك لا ألما ؟

                                                          وقال بعضهم في قوله : فلا اقتحم العقبة معناها : فما ، وقيل : فهلا ، وقال الزجاج : المعنى فلم يقتحم العقبة كما قال فلا صدق ولا صلى ولم يذكر لا هاهنا إلا مرة واحدة ، وقلما تتكلم العرب في مثل هذا المكان إلا بلا مرتين أو أكثر ، لا تكاد تقول : لا جئتني تريد : ما جئتني فإن قلت لا جئتني ولا زرتني ولا صلح . والمعنى في فلا اقتحم موجود لأن لا ثابتة كلها في الكلام ، لأن قوله : ثم كان من الذين آمنوا يدل على معنى فلا اقتحم ولا آمن ، قال : ونحو ذلك قال الفراء ، قال الليث : وقد يردف ألا بلا فيقال : ألا لا; وأنشد :


                                                          فقام يذود الناس عنها بسيفه     وقال : ألا لا من سبيل إلى هند

                                                          ويقال للرجل : هل كان كذا وكذا ؟ فيقال : ألا لا . جعل ألا تنبيها ولا نفيا . وقال الليث في لي قال : هما حرفان متباينان قرنا واللام لام الملك والياء ياء الإضافة ; وأما قول الكميت :


                                                          كلا وكذا تغميضة ثم هجتم لدى     حين أن كانوا إلى النوم ، أفقرا

                                                          فيقول : كان نومهم في القلة كقول القائل : لا وذا ، والعرب إذا أرادوا تقليل مدة فعل أو ظهور شيء خفي قالوا : كان فعله كلا ، وربما كرروا فقالوا : كلا ولا . ومن ذلك قول ذي الرمة :


                                                          أصاب خصاصة فبدا كليلا     كلا ، وانغل سائره انغلالا

                                                          وقال آخر :


                                                          يكون نزول القوم فيها كلا ولا لات

                                                          : أبو زيد في قوله : ولات حين مناص قال : التاء فيها صلة والعرب تصل هذه التاء في كلامها وتنزعها; وأنشد : طلبوا صلحنا ولات أوان فأجبنا أن ليس حين بقاء قال : والأصل فيها لا ، والمعنى فيها : ليس ، والعرب تقول : ما أستطيع وما أسطيع ، ويقولون : ثمت في موضع ثم ، وربت في موضع رب ، ويا ويلتنا ويا ويلنا . وذكر أبو الهيثم عن نصر الرازي أنه قال في قولهم : لات هنا أي : ليس حين ذلك ، وإنما هو لا هنا ، فأنث لا فقيل : لاة ثم أضيف فتحولت الهاء تاء ، كما أنثوا رب ربة وثم ثمت ، قال : وهذا قول الكسائي . وقال الفراء : معنى ولات حين مناص أي : ليس بحين فرار ، وتنصب بها لأنها في معنى ليس; وأنشد :

                                                          تذكر حب ليلى لات حينا

                                                          قال : ومن العرب من يخفض بلات ; وأنشد :

                                                          طلبوا صلحنا ولات أوان

                                                          قال شمر : أجمع علماء النحويين من الكوفيين والبصريين أن أصل هذه التاء التي في لات هاء ، وصلت بلا فقالوا : لاة لغير معنى حادث ، كما زادوا في ثم وثمة ، لزمت ، فلما ، صلوها جعلوها تاء . ‏

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية