الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة : في تحقيق المحاربة : وهي إشهار السلاح قصد السلب ، مأخوذ من الحرب ; وهو استلاب ما على المسلم بإظهار السلاح عليه ، والمسلمون أولياء الله بقوله تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا } . وقد شرح ذلك مالك شرحا بالغا فيما رواه ابن وهب عنه : قال ابن وهب : قال مالك : المحارب الذي يقطع السبيل وينفر بالناس في كل مكان ، ويظهر الفساد في الأرض وإن لم يقتل أحدا ، إذا ظهر عليه يقتل ; وإن لم يقتل فللإمام أن يرى فيه رأيه بالقتل ، أو الصلب ، أو القطع ، أو النفي ; قال مالك : والمستتر في ذلك والمعلن بحرابته [ سواء ] .

                                                                                                                                                                                                              وإن استخفى بذلك ، وظهر في الناس إذا أراد الأموال وأخاف فقطع السبيل أو قتل ، فذلك إلى الإمام ; يجتهد أي هذه الخصال شاء . وفي رواية عن ابن وهب أن ذلك إن كان قريبا وأخذ بحدثانه فليأخذ الإمام فيه بأشد العقوبة ، وفي ذلك أربعة أقوال :

                                                                                                                                                                                                              الأول : ما تقدم ذكره لمالك .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنها الزنا والسرقة والقتل ; قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أنه المجاهر بقطع الطريق والمكابر باللصوصية في المصر وغيره ; قاله الشافعي ومالك في رواية والأوزاعي .

                                                                                                                                                                                                              الرابع : أنه المجاهر في الطريق لا في المصر ; قاله أبو حنيفة وعطاء . [ ص: 95 ]

                                                                                                                                                                                                              المسألة الخامسة : في التنقيح : أما قول مجاهد فساقط ، إلا أن يريد به أن يفعله مجاهرة مغالبة ، فإن ذلك أفحش في الحرابة . قال القاضي رضي الله عنه : ولقد كنت أيام تولية القضاء قد رفع إلي قوم خرجوا محاربين إلى رفقة ، فأخذوا منهم امرأة مغالبة على نفسها من زوجها ومن جملة المسلمين معه فيها فاحتملوها ، ثم جد فيهم الطلب فأخذوا وجيء بهم ، فسألت من كان ابتلاني الله به من المفتين ، فقالوا : ليسوا محاربين ; لأن الحرابة إنما تكون في الأموال لا في الفروج . فقلت لهم : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال ، وأن الناس كلهم ليرضون أن تذهب أموالهم وتحرب من بين أيديهم ولا يحرب المرء من زوجته وبنته ، ولو كان فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج ، وحسبكم من بلاء صحبة الجهال ، وخصوصا في الفتيا والقضاء .

                                                                                                                                                                                                              وأما قول من قال : إنه سواء في المصر والبيداء فإنه أخذ بمطلق القرآن . وأما من فرق فإنه رأى أن الحرابة في البيداء أفحش منها في المصر لعدم الغوث في البيداء وإمكانه في المصر . والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر ، وإن كان بعضها أفحش من بعض ، ولكن اسم الحرابة يتناولها ، ومعنى الحرابة موجود فيها ، ولو أخرج بعضا من في المصر لقتل بالسيف ويؤخذ فيه بأشد ذلك لا بأيسره فإنه سلب غيلة ، وفعل الغيلة أقبح من فعل الظاهرة ، ولذلك دخل العفو في قتل المجاهرة ، فكان قصاصا ، ولم يدخل في قتل الغيلة ، وكان حدا ; فتحرر أن قطع السبيل موجب للقتل في أصح أقوالنا خلافا للشافعي وغيره .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 96 ] فإن قيل : هذا لا يوجب إجراء الباغي بالفساد في الأرض خاصة مجرى الذي يضم إليه القتل وأخذ المال ، لعظيم الزيادة من أحدهما على الآخر .

                                                                                                                                                                                                              والذي يدل على عدم التسوية بينهما أن الذي يضم إلى السعي بالفساد في الأرض القتل وأخذ المال يجب القتل عليه ، ولا يجوز إسقاطه عنه ، والذي ينفرد بالسعي في إخافة السبيل خاصة يجوز ترك قتله ; يؤكده أن المحارب إذا قتل قوبل بالقتل ، وإذا أخذ المال قطعت يده لأخذه المال ، ورجله لإخافته السبيل ، وهذه عمدة الشافعية علينا ، وخصوصا أهل خراسان منهم ، وهي باطلة لا يقولها مبتدئ . أما قولهم : كيف يسوى بين من أخاف السبيل وقتل ، وبين من أخاف السبيل ولم يقتل ، وقد وجدت منه الزيادة العظمى ، وهي القتل ؟ قلنا : وما الذي يمنع من استواء الجريمتين في العقوبة وإن كانت إحداهما أفحش من الأخرى ؟ ولم أحلتم ذلك ؟ أعقلا فعلتم ذلك أم شرعا ؟ أما العقل فلا مجال له في هذا ، وإن عولتم على الشرع فأين الشرع ؟ بل قد شاهدنا ذلك في الشرع ; فإن عقوبة القاتل كعقوبة الكافر ، وإحداهما أفحش .

                                                                                                                                                                                                              وأما قوله : لو استوى حكمهما لم يجز إسقاط القتل عمن أخاف السبيل ولم يقتل ، كما لم يجز إسقاطه عمن أخاف وقتل . قلنا : هذه غفلة منكم ; فإن الذي يخيف ويقتل أجمعت الأمة على تعين القتل عليه ، فلم يجز مخالفته . أما إذا أخاف ولم يقتل فهي مسألة مختلف فيها ومحل اجتهاد ، فمن أداه اجتهاده إلى القتل حكم به ، ومن أداه اجتهاده إلى إسقاطه أسقطه ; ولهذه النكتة قال مالك : وليستشر ليعلم الحقيقة من الإجماع والخلاف وطرق الاجتهاد لئلا يقدم على جهالة كما أقدمتم .

                                                                                                                                                                                                              وأما قولهم : إن القتل يقابل القتل ، وقطع اليد يقابل السرقة ، وقطع الرجل يقابل [ ص: 97 ] المال ، فهو تحكم منهم ومزج للقصاص والسرقة بالحرابة ، وهو حكم منفرد بنفسه خارج عن جميع حدود الشريعة لفحشه وقبح أمره .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية