الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون

                                                                                                                                                                                                                                      أولئك ... إلخ، فإنه إشارة إلى المذكورين باعتبار إرادتهم الحياة الدنيا، أو باعتبار توفيتهم أجورهم من غير بخس، أو باعتبارهما معا وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في سوء الحال، أي: أولئك المريدون للحياة الدنيا وزينتها الموفون فيها ثمرات أعمالهم من غير بخس الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار لأن هممهم كانت مصروفة إلى الدنيا، وأعمالهم مقصورة على تحصيلها، وقد [ ص: 194 ] اجتنبوا ثمرتها، ولم يكونوا يريدون بها شيئا آخر، فلا جرم لم يكن لهم في الآخرة إلا النار وعذابها المخلد.

                                                                                                                                                                                                                                      وحبط ما صنعوا فيها أي: ظهر في الآخرة حبوط ما صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدي إلى الثواب لو كانت معمولة للآخرة، أو حبط ما صنعوه في الدنيا من أعمال البر إذ شرط الاعتداد بها الإخلاص وباطل أي: في نفسه ما كانوا يعملون في أثناء تحصيل المطالب الدنيوية، ولأجل أن الأول من شأنه استتباع الثواب والأجر، وأن عدمه لعدم مقارنته للإيمان والنية الصحيحة، وأن الثاني ليس له جهة صالحة قط - علق بالأول الحبوط المؤذن بسقوط أجره بصيغة الفعل المنبئ عن الحدوث، وبالثاني البطلان المفصح عن كونه بحيث لا طائل تحته أصلا بالاسمية الدالة على كون ذلك وصفا لازما له ثابتا فيه، وفي زيادة كان في الثاني دون الأول إيماء إلى أن صدور أعمال البر منهم -وإن كان لغرض فاسد - ليس في الاستمرار والدوام كصدور الأعمال التي هي من مقدمات مطالبهم الدنية، وقرئ (وبطل) على الفعل، أي: ظهر بطلانه حيث علم هناك أن ذلك وما يستتبعه من الحظوظ الدنيوية مما لا طائل تحته، أو انقطع أثره الدنيوي فبطل مطلقا، وقرئ (وباطلا ما كانوا يعملون) على أن "ما" إبهامية، أو في معنى المصدر، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      ولا خارجا من في زور كلام



                                                                                                                                                                                                                                      وعن أنس - رضي الله عنه -أن المراد بقوله تعالى: "من كان يريد" ... إلخ، اليهود والنصارى ، إن أعطوا سائلا، أو وصلوا رحما عجل لهم جزاء ذلك بتوسعة في الرزق وصحة في البدن، وقيل: هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسهم لهم في الغنائم، وأنت خبير بأن ذلك إنما كان بعد الهجرة والسورة مكية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هم أهل الرياء، يقال للقراء منهم: أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذلك، وهكذا لغيره ممن يعمل أعمال البر لا لوجه الله تعالى، فعلى هذا لا بد من تقييد قوله تعالى:" ليس لهم إلا النار " بأن ليس لهم بسبب أعمالهم الريائية إلا ذلك، والذي تقتضيه جزالة النظم الكريم أن المراد به مطلق الكفرة، بحيث يندرج فيهم القادحون في القرآن العظيم اندراجا أوليا، فإنه - عز وعلا - لما أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بأن يزدادوا علما ويقينا بأن القرآن منزل بعلم الله - وبأن لا قدرة لغيره على شيء أصلا، وهيجهم على الثبات على الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة، وما يدعون من دون الله عن المعارضة، وتبين أنهم ليسوا على شيء أصلا - اقتضى الحال أن يتعرض لبعض شئونهم الموهمة لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظ العاجلة، واستيلائهم على المطالب الدنيوية، وبيان أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه، ولقد بين ذلك أي بيان، ثم أعيد الترغيب فيما ذكر من الإيمان بالقرآن والتوحيد والإسلام، فقيل:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية