الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير

                                                                                                                                                                                                                                      ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم أي: تفضلا، وقد علموا ذلك بما مر من دلالة الحال، وقرئ بنقل حركة الدال المدغمة إلى الراء، كما قيل في قيل وكيل.

                                                                                                                                                                                                                                      " وقالوا " استئناف مبني على السؤال، كأنه قيل: ماذا قالوا حينئذ؟ فقيل: قالوا لأبيهم - ولعله كان حاضرا عند الفتح -: يا أبانا ما نبغي إذا فسر البغي بالطلب، فـ"ما" إما استفهامية منصوبة به، فالمعنى ماذا نبتغي وراء ما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الداعي إلى امتثال أمره والمراجعة إليه في الحوايج، وقد كانوا أخبروه بذلك وقالوا له: إنا قدمنا على خير رجل، أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: هذه بضاعتنا ردت إلينا جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الإنكار من بلوغ اللطف غايته، كأنهم قالوا: كيف لا وهذه بضاعتنا ردها إلينا تفضلا من حيث لا ندري بعدما من علينا من المنن العظام؟ هل من مزيد على هذا فنطلبه، ولم يريدوا به الاكتفاء بذلك مطلقا، أو التقاعد عن طلب بنظائره، بل أرادوا الاكتفاء به في استيجاب الامتثال لأمره والالتجاء إليه في استجلاب المزيد، كما أشرنا إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (ردت إلينا) حال من (بضاعتنا) والعامل معنى الإشارة، وإيثار صيغة البناء للمفعول للإيذان بكمال الإحسان الناشئ عن كمال الإخفاء المفهوم من كمال غفلتهم عنه، بحيث لم يشعروا به ولا بفاعله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله عز وجل: ونمير أهلنا أي: نجلب إليهم الطعام من عند الملك، معطوف على مقدر ينسحب عليه رد البضاعة، أي: فنستظهر بها ونمير أهلنا ونحفظ أخانا من المكاره - حسبما وعدنا - فما يصيبه من مكروه ونزداد أي: بواسطته، ولذلك وسط الإخبار بحفظه بين الأصل والمزيد كيل بعير أي: وسق بعير زائدا على أوساق أباعرنا على قضية التقسيط ذلك أي: ما يحمله أباعرنا كيل يسير أي: مكيل قليل لا يقوم بأودنا، فهو استئناف وقع تعليلا لما سبق، كأنه قيل: أي حاجة إلى الازدياد؟ فقيل ما قيل، أو ذلك الكيل الزائد شيء قليل لا يضايقنا فيه الملك، أو سهل عليه لا يتعاظمه، أو أي مطلب نطلب من مهماتنا، والجملة الواقعة بعده توضيح [ ص: 291 ] وبيان لما يشعر به الإنكار من كونهم فائزين ببعض المطالب، أو متمكنين من تحصيله، فكأنهم قالوا: بضاعتنا حاضرة، فنستظهر بها، ونمير أهلنا، ونحفظ أخانا، فما يصيبه شيء من المكاره، ونزداد بسببه غير ما نكتاله لأنفسنا كيل بعير، فأي شيء نبتغي وراء هذه المباغي؟!

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ (ما تبغي) على خطاب يعقوب - عليه السلام - أي: أي شيء تبغي وراء هذه المباغي المشتملة على سلامة أخينا، وسعة ذات أيدينا، أو وراء ما فعل بنا الملك من الإحسان داعيا إلى التوجه إليه، والجملة الاستئنافية موضحة لذلك، أو أي شيء تبغي شاهدا على صدقنا فيما وصفنا لك من إحسانه، والجملة المذكورة عبارة عن الشاهد المدلول عليه بفحوى الإنكار، وإما نافية فالمعنى ما نبغي شيئا غير ما رأينا من إحسان الملك في وجوب المراجعة إليه، أو ما نبغي غير هذه المباغي، وقيل: ما نطلب منك بضاعة أخرى، والجملة المستأنفة تعليل له.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما إذا فسر البغي بمجاوزة الحد فما نافية فقط، والمعنى: ما نبغي في القول وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الموجب لما ذكر، والجملة المستأنفة لبيان ما ادعوا من عدم البغي، وقوله: "ونمير أهلنا" عطف على (ما نبغي) أي: ما نبغي فيما ذكرنا من إحسانه وتحصيل أمثاله من مير أهلنا وحفظ أخينا، فإن ذلك أهون شيء بواسطة إحسانه، وقد جوز أن يكون كلاما مبتدأ، أي: جملة اعتراضية تذييلية على معنى: وينبغي أن نمير أهلنا، وشبه ذلك بقولك: سعيت في حاجة فلان ويجب أن أسعى، وأنت خبير بأن شأن الجمل التذييلية أن تكون مؤكدة لمضمون الصدر ومقررة له كما في المثال المذكور، وقولك: فلان ينطق بالحق فالحق أبلج، وأن قوله: "ونمير" ... إلخ - وإن ساعدنا في حمله على معنى ينبغي أن نمير أهلنا - بمعزل من ذلك، أو ما نبغي في الرأي وما نعدل عن الصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا، والجمل إلى آخرها تفصيل وبيان لعدم بغيهم وإصابة رأيهم، أي: بضاعتنا حاضرة نستظهر بها ونمير أهلنا، ونصنع كيت وذيت، فتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية