الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  ( 138 ) حدثنا علي بن المبارك الصنعاني ، ثنا زيد بن المبارك ، ثنا محمد بن ثور ، عن ابن جريج ، قال : وقال ابن شهاب ، عن عروة ، وعبيد الله بن عدي ، وعلقمة بن وقاص ، يزيد بعضهم على بعض ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها سافر بها ، فغزا غزوة خرج فيها سهمي ، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزاته ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ، فخرجت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني رجعت إلى منزلي ، فلمست عقدا لي من جزع أظفار فإذا هو قد انقطع ، فرجعت وحبسني ابتغاؤه ، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون بي هودجي فرحلوه على جملي وهم يحسبون أني فيه ، والنساء حينئذ خفاف لم يهبلن اللحم ، فاستمر الجيش ، وجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي وعلمت أن سيفقدوني فينظروني ، فبينا أنا جالسة غلبتني عيني ، وكان صفوان [ ص: 67 ] بن المعطل عرس من وراء الجيش ، فرأى سواد إنسان نائم فتيممني ، فلما رآني استرجع ، وقد كان يدخل علي قبل أن يضرب علي الحجاب ، ففزعت باسترجاعه فخمرت وجهي ، فما تكلم غيرها وما تكلمني حتى أناخ راحلته ، فوطئ على ذراعها فركبت ، فجئنا الجيش نحر الظهيرة مغاولين ، وقد هلك من هلك ، فقدمت المدينة فمرضت شهرا لا أشعر بالذي قال أهل الإفك ، وأنا يريبني من النبي - صلى الله عليه وسلم - أني لا أرى منه اللطف الذي كنت أرى منه إذا مرضت ، إنما يقوم قائما فيقول : " كيف تيكم ؟ " حتى إذا نقهت تبرزت أنا وأم مسطح إلى المناصع وهو متبرزنا ، وأمرنا أمر العرب الأول إنما نأكل العلقة من الطعام ويتبرزن ليلا إلى ليل ، فلما قضينا شأننا رجعت إلى منزلي ، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح ، فقلت : بئس ما قلت سببت رجلا صالحا قد شهد بدرا ، فقالت : أي هنتاه أو ما تدرين ما قالوا ؟ ، قلت : وما قالوا ؟ ، فأخبرتني الخبر فانتظرت النبي - صلى الله عليه وسلم - ليأتي ، فاستأذنته إلى أبوي فأستيقن الخبر من قبلهما فجئت بيتهما ، فوجدت أبي يصلي ، قلت : يا أمه ما قالوا ؟ ، قالت : أي بنية إنه قل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها ، لها ضرائر إلا أكثرن عليها ، قالت : أو لقد قالوا ذلك ؟ ، فانصرف أبي يصلي ، فوالله لوددت أني كنت حيضة ، فكنت لا يكتحل عيني بنوم ولا يرقأ لي دمع ، وعلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر ، فقال : " ما بال رجال قد بلغني أذاهم في أهلي ، ولقد ذكروا رجلا صالحا قد شهد بدرا ما دخل على أهلي قط إلا وأنا حاضر ، ولا سافرت من سفر قط إلا وإنه لمعي ، فقام سعد بن معاذ ، فقال : أنا لك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من بني الحارث بن الخزرج [ ص: 68 ] أتيناك به موثقا ، فقام سعد بن عبادة فقال : كذبت والله لا تقتله ولا تستطيع قتله ، فقام أسيد بن حضير بن سماك ، فقال : كذبت والله ليقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، فتثاور الحيان الأوس والخزرج ، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل يسكتهم ويخفضهم حتى سكتوا ، قال ابن جريج : قال مولى ابن عباس : قال بعضهم لبعض : موعدا لكم الحرة ، فلبسوا السلاح وخرجوا إليها ، فأتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يزل يتلو عليهم هذه الآية : واذكروا نعمة الله عليكم حتى تنقضي ، يرددها عليهم حتى اعتنق بعضهم بعضا وحتى أن لهم لخنانا ، ثم انصرفوا قد اصطلحوا ، واستلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي ، فدعا عليا وأسامة بن زيد فاستشارهما في فراق أهله ، فأما علي فقال : لم يضيق الله عليك والنساء كثير ، وإن تسأل الجارية - يريد بريرة - تصدقك ، وأما أسامة فأشار بالذي يعلم في نفسه من الوجد بأهله وبما يعلم من براءتهم ، فدعا بريرة ، فقال : " هل رأيت على هذه الجارية من شيء تغمصينه عليها ؟ " ، فقالت : لا ، والذي بعثك بالحق ، إلا أنها جارية حديثة السن ترقد حتى تأكل الداجن عجينها أو خميرها ، قالت عائشة : فمكثت يومين وليلتين لا تكتحل عيني بنوم ولا يرقأ لي دمع ، وأصبح أبواي عندي يظنان أن البكاء فالق كبدي ، فاستأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس مني مجلسا لم يجلسه مني منذ قيل لي ما قيل فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد يا عائشة فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فتوبي منه واعترفي به ، فإن المرء إذا تاب من ذنبه واعترف به غفر له " ، قالت : فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته قلص دمعي حتى ما أحس [ ص: 69 ] منه قطرة ، قلت : يا أبه أجب رسول الله ، فقال : ما أدري ما أجيبه ، قلت : يا أمي أجيبي رسول الله ، قالت : ما أدري ما أجيبه ، قالت : وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرا ، فقلت : والله لقد سمعتم من هذا شيئا استقر في أنفسكم ، فلئن قلت أنا منه بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقونني ، ولئن اعترفت بذنب أنا منه بريئة لتصدقونني ، ألا فإنما مثلي ومثلكم كأبي يوسف - اختلس مني اسمه - فصبر جميل والله المستعان ، ثم وليت وجهي نحو الجدار ونفسي أحقر عندي من أن ينزل في قرآن يتلى ، ولكني قد رجوت أن يري الله رسوله رؤيا في المنام ، فما تفرق أهل المجلس حتى أخذت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البرحاء التي كانت تأخذه عند الوحي ، حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق ، فاستغشى ثوبه ، قال أبو بكر : فجعلت أنظر إلى رسول الله فأخشى أن يأتي من السماء ما لا مرد له ، وأنظر إلى وجه عائشة فإذا هو مفيق ، فيطعمني في ذلك منها ، فإنما أنظر ههنا وههنا ، فنزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه الثوب وهو يمسح جبهته من العرق وهو يقول : " أبشري يا عائش ، أما الله فقد برأك " ، فقلت : بحمد الله وذمكم ، فقالت أمي : قومي فقبلي رأس رسول الله ، فقلت : لا والله لا أفعل ولا أحمد إلا الله ، وكان مما يبغي عليه أن قالت : والله ما أستحي من الأنصارية أن تقول لي ما قال .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية