الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يعضد بها شجر ) ، وفي اللفظ الآخر : ( ولا يعضد شوكها ) ، وفي لفظ في " صحيح مسلم " : ( ولا يخبط شوكها ) لا خلاف بينهم أن الشجر البري الذي لم ينبته الآدمي على اختلاف أنواعه مراد من هذا اللفظ ، واختلفوا فيما أنبته الآدمي من الشجر في الحرم على ثلاثة أقوال ، وهي في مذهب أحمد :

أحدها : أن له قلعه ، ولا ضمان عليه ، وهذا اختيار ابن عقيل ، وأبي الخطاب ، وغيرهما .

والثاني : أنه ليس له قلعه ، وإن فعل ففيه الجزاء بكل حال ، وهو قول [ ص: 395 ] الشافعي ، وهو الذي ذكره ابن البناء في " خصاله " .

الثالث : الفرق بين ما أنبته في الحل ثم غرسه في الحرم ، وبين ما أنبته في الحرم أولا ، فالأول : لا جزاء فيه ، والثاني : لا يقلع وفيه الجزاء بكل حال ، وهذا قول القاضي .

وفيه قول رابع : وهو الفرق بين ما ينبت الآدمي جنسه كاللوز والجوز والنخل ونحوه ، وما لا ينبت الآدمي جنسه كالدوح والسلم ونحوه ، فالأول يجوز قلعه ، ولا جزاء فيه ، والثاني : لا يجوز ، وفيه الجزاء .

قال صاحب " المغني " : والأولى الأخذ بعموم الحديث في تحريم الشجر كله ، إلا ما أنبت الآدمي من جنس شجرهم بالقياس على ما أنبتوه من الزرع والأهلي من الحيوان ، فإننا إنما أخرجنا من الصيد ما كان أصله إنسيا دون ما تأنس من الوحشي ، كذا هاهنا ، وهذا تصريح منه باختيار هذا القول الرابع ، فصار في مذهب أحمد أربعة أقوال .

والحديث ظاهر جدا في تحريم قطع الشوك والعوسج ، وقال الشافعي : لا يحرم قطعه ؛ لأنه يؤذي الناس بطبعه ، فأشبه السباع ، وهذا اختيار أبي الخطاب وابن عقيل ، وهو مروي عن عطاء ومجاهد وغيرهما . وقوله - صلى الله عليه وسلم - ( لا يعضد شوكها ) وفي اللفظ الآخر : ( لا يختلى شوكها ) صريح في المنع ، ولا يصح قياسه على السباع العادية ، فإن تلك تقصد بطبعها الأذى ، وهذا لا يؤذي من لم يدن منه .

والحديث لم يفرق بين الأخضر واليابس ، ولكن قد جوزوا قطع اليابس ، قالوا : لأنه بمنزلة الميت ، ولا يعرف فيه خلاف ، وعلى هذا فسياق الحديث يدل على أنه إنما أراد الأخضر ، فإنه جعله بمنزلة تنفير الصيد ، وليس في أخذ اليابس انتهاك حرمة الشجرة الخضراء التي تسبح بحمد ربها ، ولهذا غرس النبي - صلى الله عليه وسلم - على [ ص: 396 ] القبرين غصنين أخضرين ، وقال : ( لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) .

وفي الحديث دليل على أنه إذا انقلعت الشجرة بنفسها ، أو انكسر الغصن جاز الانتفاع به ؛ لأنه لم يعضده هو ، وهذا لا نزاع فيه .

فإن قيل : فما تقولون فيما إذا قلعها قالع ثم تركها ، فهل يجوز له أو لغيره أن ينتفع بها ؟ قيل : قد سئل الإمام أحمد عن هذه المسألة فقال : من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها ، وقال لم أسمع إذا قطعه ينتفع به .

وفيه وجه آخر ، أنه يجوز لغير القاطع الانتفاع به ؛ لأنه قطع بغير فعله فأبيح له الانتفاع به ، كما لو قلعته الريح ، وهذا بخلاف الصيد إذا قتله محرم ، حيث يحرم على غيره ، فإن قتل المحرم له جعله ميتة .

وقوله في اللفظ الآخر : ( ولا يخبط شوكها ) صريح أو كالصريح في تحريم قطع الورق ، وهذا مذهب أحمد - رحمه الله - وقال الشافعي : له أخذه ، ويروى عن عطاء ، والأول أصح لظاهر النص والقياس ، فإن منزلته من الشجرة منزلة ريش الطائر منه ، وأيضا فإن أخذ الورق ذريعة إلى يبس الأغصان ، فإنه لباسها ووقايتها .

التالي السابق


الخدمات العلمية