فصل الفرق بين المشيئة والمحبة
فأما
nindex.php?page=treesubj&link=29416_29554المشيئة ، والمحبة فقد دل على الفرق بينهما القرآن والسنة ، والعقل ، والفطرة ، وإجماع المسلمين .
قال الله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=108nindex.php?page=treesubj&link=28975يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول [ ص: 266 ] فقد أخبر أنه لا يرضى بما يبيتونه من القول المتضمن البهت ورمي البريء ، وشهادة الزور ، وبراءة الجاني ، فإن الآية نزلت في قصة هذا شأنها ، مع أن ذلك كله بمشيئته ، إذ أجمع المسلمون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، ولم يخالف في ذلك إلا
القدرية المجوسية ، الذين يقولون : يشاء ما لا يكون ، ويكون ما لا يشاء .
وتأويل من تأول الآية على أنه لا يرضاه دينا ، مع محبته لوقوعه مما ينبغي أن يصان كلام الله عنه ، إذ المعنى عندهم أنه محبوب له ، ولكن لا يثاب فاعله عليه ، فهو محبوب بالمشيئة ، غير مثاب عليه شرعا .
ومذهب سلف الأمة وأئمتها أنه مسخوط للرب ، مكروه له قدرا وشرعا ، مع أنه وجد بمشيئته وقضائه ، فإنه يخلق ما يحب وما يكره ، وهذا كما أن الأعيان كلها خلقه ، وفيها ما يبغضه ويكرهه - كإبليس وجنوده ، وسائر الأعيان الخبيثة - وفيها ما يحبه ويرضاه - كأنبيائه ورسله ، وملائكته وأوليائه - وهكذا الأفعال كلها منها ما هو محبوب له وما هو مكروه له ، خلقه لحكمة له في خلق ما يكره ويبغض كالأعيان ، وقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=205والله لا يحب الفساد مع أنه بمشيئته وقضائه وقدره ، وقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=7إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم فالكفر والشكر واقعان بمشيئته وقدره ، وأحدهما محبوب له مرض ، والآخر مبغوض له مسخوط .
وكذلك قوله عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=38كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها فهو مكروه له ، مع وقوعه بمشيئته وقضائه وقدره .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
nindex.php?page=hadith&LINKID=980193إن الله كره لكم ثلاثا : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال فهذه كراهة لموجود تعلقت به المشيئة .
وفي المسند
nindex.php?page=hadith&LINKID=980194 " إن الله يحب أن يؤخذ برخصه ، كما يكره أن تؤتى معصيته " فهذه محبة
[ ص: 267 ] وكراهة لأمرين موجودين ، اجتمعا في المشيئة ، وافترقا في المحبة والكراهة ، وهذا في الكتاب والسنة أكثر من أن يذكر جميعه .
وقد فطر الله عباده على قولهم : هذا الفعل يحبه الله ، وهذا يكرهه الله ويبغضه وفلان يفعل ما لا يحبه الله ، والقرآن مملوء بذكر سخطه وغضبه على أعدائه ، وذلك صفة قائمة به ، يترتب عليها العذاب واللعنة ، لا أن السخط هو نفس العذاب واللعنة بل هما أثر السخط والغضب وموجبهما ، ولهذا يفرق بينهما كما قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=93ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ففرق بين عذابه وغضبه ولعنته ، وجعل كل واحد غير الآخر .
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=980195اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك .
فتأمل ذكر استعاذته صلى الله عليه وسلم بصفة الرضا من صفة السخط وبفعل المعافاة من فعل العقوبة ، فالأول للصفة ، والثاني لأثرها المترتب عليها ، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه ، وأن ذلك كله راجع إليه وحده ، لا إلى غيره ، فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك ، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك ، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه ، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه ، فإعاذتي مما أكره وأحذر ، ومنعه أن يحل بي هو بمشيئتك أيضا ، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك ، فعياذي بك منك عياذي بحولك وقوتك وقدرتك ورحمتك وإحسانك مما يكون بحولك وقوتك وقدرتك وعدلك وحكمتك ، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك ، ولا أستعيذ إلا بك من شيء هو صادر عن مشيئتك وخلقك ، بل هو منك ، ولا أستعيذ بغيرك من شيء هو صادر عن مشيئتك وقضائك ، بل أنت الذي تعيذني بمشيئتك مما هو كائن بمشيئتك ، فأعوذ بك منك .
ولا يعلم ما في هذه الكلمات - من التوحيد والمعارف والعبودية - إلا الراسخون في
[ ص: 268 ] العلم بالله ومعرفته ، ومعرفة عبوديته .
وأشرنا إلى شيء يسير من معناها ، ولو استقصينا شرحها لقام منه سفر ضخم ، ولكن قد فتح لك الباب ، فإن دخلت رأيت ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
والمقصود أن
nindex.php?page=treesubj&link=28661انقسام الكون في أعيانه وصفاته وأفعاله إلى محبوب للرب مرضي له ، ومسخوط مبغوض له مكروه له أمر معلوم بجميع أنواع الأدلة ، من العقل والنقل ، والفطرة والاعتبار ، فمن سوى بين ذلك كله فقد خالف فطرة الله التي فطر عليها عباده ، وخالف المعقول والمنقول ، وخرج عما جاءت به الرسل .
ولأي شيء نوع الله سبحانه العقوبات البليغة في الدنيا والآخرة ، وأشهد عباده منها ما أشهدهم ؟ لولا شدة غضبه وسخطه على الفاعلين لما اشتدت كراهته وبغضه له ، فأوجبت تلك الكراهة والبغض منه وقوع أنواع المكاره بهم ، كما أن محبته لما يحبه من الأفعال ويرضاه أوجبت وقوع أنواع المحاب لمن فعلها ، وشهود ما في العالم من إكرام أوليائه ، وإتمام نعمه عليهم ، ونصرهم وإعزازهم ، وإهانة أعدائه وعقوبتهم ، وإيقاع المكاره بهم من أدل الدليل على حبه وبغضه وكراهته ، بل نفس موالاته لمن والاه ، ومعاداته لمن عاداه هي عين محبته وبغضه ، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=29416الموالاة أصلها الحب ،
nindex.php?page=treesubj&link=29554والمعاداة أصلها البغض ، فإنكار صفة المحبة والكراهة ، إنكار لحقيقة الموالاة والمعاداة .
وبالجملة فشهود القلوب لمحبته وكراهته ، كشهود العيان لكرامته وإهانته .
فَصْلٌ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْمَحَبَّةِ
فَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29416_29554الْمَشِيئَةُ ، وَالْمَحَبَّةُ فَقَدْ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا الْقُرْآنُ وَالسَّنَةُ ، وَالْعَقْلُ ، وَالْفِطْرَةُ ، وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=108nindex.php?page=treesubj&link=28975يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [ ص: 266 ] فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِمَا يَبَيِّتُونَهُ مِنَ الْقَوْلِ الْمُتَضَمِّنِ الْبَهْتَ وَرَمْيَ الْبَرِيءِ ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ ، وَبَرَاءَةَ الْجَانِي ، فَإِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةٍ هَذَا شَأْنُهَا ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَشِيئَتِهِ ، إِذْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا
الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ ، الَّذِينَ يَقُولُونَ : يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ ، وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ .
وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ دِينًا ، مَعَ مَحَبَّتِهِ لِوُقُوعِهِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُصَانَ كَلَامُ اللَّهِ عَنْهُ ، إِذِ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مَحْبُوبٌ لَهُ ، وَلَكِنْ لَا يُثَابُ فَاعِلُهُ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مَحْبُوبٌ بِالْمَشِيئَةِ ، غَيْرُ مُثَابٍ عَلَيْهِ شَرْعًا .
وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَنَّهُ مَسْخُوطٌ لِلرَّبِّ ، مَكْرُوهٌ لَهُ قَدَرًا وَشَرْعًا ، مَعَ أَنَّهُ وُجِدَ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ ، فَإِنَّهُ يَخْلُقُ مَا يُحِبُّ وَمَا يَكْرَهُ ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْأَعْيَانَ كُلَّهَا خَلْقُهُ ، وَفِيهَا مَا يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ - كَإِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ ، وَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الْخَبِيثَةِ - وَفِيهَا مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ - كَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ ، وَمَلَائِكَتِهِ وَأَوْلِيَائِهِ - وَهَكَذَا الْأَفْعَالُ كُلُّهَا مِنْهَا مَا هُوَ مَحْبُوبٌ لَهُ وَمَا هُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ ، خَلَقَهُ لِحِكْمَةٍ لَهُ فِي خَلْقِ مَا يَكْرَهُ وَيُبْغِضُ كَالْأَعْيَانِ ، وَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=205وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ مَعَ أَنَّهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=7إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ فَالْكُفْرُ وَالشُّكْرُ وَاقِعَانِ بِمَشِيئَتِهِ وَقَدْرِهِ ، وَأَحَدُهُمَا مَحْبُوبٌ لَهُ مُرْضٍ ، وَالْآخَرُ مَبْغُوضٌ لَهُ مَسْخُوطٌ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عُقَيْبَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْكِبْرِ
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=38كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ ، مَعَ وُقُوعِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980193إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا : قِيلَ وَقَالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ فَهَذِهِ كَرَاهَةٌ لِمَوْجُودٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَشِيئَةُ .
وَفِي الْمُسْنَدِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980194 " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ " فَهَذِهِ مَحَبَّةٌ
[ ص: 267 ] وَكَرَاهَةٌ لِأَمْرَيْنِ مَوْجُودَيْنِ ، اجْتَمَعَا فِي الْمَشِيئَةِ ، وَافْتَرَقَا فِي الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهَةِ ، وَهَذَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ جَمِيعُهُ .
وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ : هَذَا الْفِعْلُ يُحِبُّهُ اللَّهُ ، وَهَذَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيُبْغِضُهُ وَفُلَانٌ يَفْعَلُ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذِكْرِ سُخْطِهِ وَغَضَبِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ ، وَذَلِكَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعَذَابُ وَاللَّعْنَةُ ، لَا أَنَّ السُّخْطَ هُوَ نَفْسُ الْعَذَابِ وَاللَّعْنَةِ بَلْ هُمَا أَثَرُ السُّخْطِ وَالْغَضَبِ وَمُوجَبُهُمَا ، وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=93وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا فَفَرَّقَ بَيْنَ عَذَابِهِ وَغَضَبِهِ وَلَعْنَتِهِ ، وَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ غَيْرَ الْآخَرِ .
وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980195اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سُخْطِكَ ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ .
فَتَأَمَّلْ ذِكْرَ اسْتِعَاذَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَةِ الرِّضَا مِنْ صِفَةِ السُّخْطِ وَبِفِعْلِ الْمُعَافَاةِ مِنْ فِعْلِ الْعُقُوبَةِ ، فَالْأَوَّلُ لِلصِّفَةِ ، وَالثَّانِي لِأَثَرِهَا الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا ، ثُمَّ رَبَطَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ وَحْدَهُ ، لَا إِلَى غَيْرِهِ ، فَمَا أَعُوذُ مِنْهُ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِكَ وَإِرَادَتِكَ ، وَمَا أَعُوذُ بِهِ مِنْ رِضَاكَ وُمُعَافَاتِكَ هُوَ بِمَشِيئَتِكَ وَإِرَادَتِكَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَرْضَى عَنْ عَبْدِكَ وَتُعَافِيَهُ ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَغْضَبَ عَلَيْهِ وَتُعَاقِبَهُ ، فَإِعَاذَتِي مِمَّا أَكْرَهُ وَأَحْذَرُ ، وَمَنْعُهُ أَنْ يَحِلَّ بِي هُوَ بِمَشِيئَتِكَ أَيْضًا ، فَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ كُلُّهُ بِقَضَائِكَ وَمَشِيئَتِكَ ، فَعِيَاذِي بِكَ مِنْكَ عِيَاذِي بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَقُدْرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَإِحْسَانِكَ مِمَّا يَكُونُ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَقُدْرَتِكَ وَعَدْلِكَ وَحِكْمَتِكَ ، فَلَا أَسْتَعِيذُ بِغَيْرِكَ مِنْ غَيْرِكَ ، وَلَا أَسْتَعِيذُ إِلَّا بِكَ مِنْ شَيْءٍ هُوَ صَادِرٌ عَنْ مَشِيئَتِكَ وَخَلْقِكَ ، بَلْ هُوَ مِنْكَ ، وَلَا أَسْتَعِيذُ بِغَيْرِكَ مِنْ شَيْءٍ هُوَ صَادِرٌ عَنْ مَشِيئَتِكَ وَقَضَائِكَ ، بَلْ أَنْتَ الَّذِي تُعِيذُنِي بِمَشِيئَتِكَ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ بِمَشِيئَتِكَ ، فَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ .
وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ - مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَارِفِ وَالْعُبُودِيَّةِ - إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي
[ ص: 268 ] الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ ، وَمَعْرِفَةِ عُبُودِيَّتِهِ .
وَأَشَرْنَا إِلَى شَيْءٍ يَسِيرٍ مِنْ مَعْنَاهَا ، وَلَوِ اسْتَقْصَيْنَا شَرْحَهَا لَقَامَ مِنْهُ سِفْرٌ ضَخْمٌ ، وَلَكِنْ قَدْ فُتِحَ لَكَ الْبَابُ ، فَإِنْ دَخَلْتَ رَأَيْتَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28661انْقِسَامَ الْكَوْنِ فِي أَعْيَانِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ إِلَى مَحْبُوبٍ لِلرَّبِّ مَرَضِيٍّ لَهُ ، وَمَسْخُوطٍ مَبْغُوضٍ لَهُ مَكْرُوهٍ لَهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ ، مِنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ ، وَالْفِطْرَةِ وَالِاعْتِبَارِ ، فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَقَدْ خَالَفَ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ عَلَيْهَا عِبَادَهُ ، وَخَالَفَ الْمَعْقُولَ وَالْمَنْقُولَ ، وَخَرَجَ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ .
وَلِأَيِّ شَيْءٍ نَوَّعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعُقُوبَاتِ الْبَلِيغَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَأَشْهَدَ عِبَادَهُ مِنْهَا مَا أَشْهَدَهُمْ ؟ لَوْلَا شِدَّةُ غَضَبِهِ وَسُخْطِهِ عَلَى الْفَاعِلِينَ لَمَا اشْتَدَّتْ كَرَاهَتُهُ وَبُغْضُهُ لَهُ ، فَأَوْجَبَتْ تِلْكَ الْكَرَاهَةُ وَالْبُغْضُ مِنْهُ وُقُوعَ أَنْوَاعِ الْمَكَارِهِ بِهِمْ ، كَمَا أَنَّ مَحَبَّتَهُ لِمَا يُحِبُّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَيَرْضَاهُ أَوْجَبَتْ وُقُوعَ أَنْوَاعِ الْمَحَابِّ لِمَنْ فَعَلَهَا ، وَشُهُودَ مَا فِي الْعَالَمِ مِنْ إِكْرَامِ أَوْلِيَائِهِ ، وَإِتْمَامِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ ، وَنَصْرِهِمْ وَإِعْزَازِهِمْ ، وَإِهَانَةِ أَعْدَائِهِ وَعُقُوبَتِهِمْ ، وَإِيقَاعِ الْمَكَارِهِ بِهِمْ مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى حُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَكَرَاهَتِهِ ، بَلْ نَفْسُ مُوَالَاتِهِ لِمَنْ وَالَاهُ ، وَمُعَادَاتِهِ لِمَنْ عَادَاهُ هِيَ عَيْنُ مَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ ، فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29416الْمُوَالَاةَ أَصْلُهَا الْحُبُّ ،
nindex.php?page=treesubj&link=29554وَالْمُعَادَاةَ أَصْلُهَا الْبُغْضُ ، فَإِنْكَارُ صِفَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهَةِ ، إِنْكَارٌ لِحَقِيقَةِ الْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَشُهُودُ الْقُلُوبِ لِمَحَبَّتِهِ وَكَرَاهَتِهِ ، كَشُهُودِ الْعِيَانِ لِكَرَامَتِهِ وَإِهَانَتِهِ .