الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل وهذه الطريقة في الإرادة والطلب نظير طريقة التجهم في العلم والمعرفة ، تلك تعطيل للصفات والتوحيد ، وهذه تعطيل للأمر والعبودية ، وانظر إلى هذا النسب والإخاء الذي بينهما ، كيف شرك بينهما في اللفظ ، كما شرك بينهما في المعنى ؟ فتلك طريقة النفي ، وهذه طريقة الفناء ، تلك نفي لصفات المعبود ، وهذه فناء عن عبوديته .

وأما نفي خواص العبيد وفناؤهم فأمر وراء نفي أولئك وفنائهم ، لأن نفيهم لصفات النقائص ، وما يضاد أوصاف الكمال ، وفناءهم عن إرادة غيره ومحبته ، وخوفه ورجائه ، ففناؤهم عن كل ما يخالف أمره ومحابه ، ونفيهم لكل ما يضاد كماله وجلاله ، ومن له فرقان فهو يعرف هذا وهذا ، وغيره لا اعتبار به .

وصاحب المنازل - رحمه الله - كان شديد الإثبات للأسماء والصفات ، مضادا للجهمية من كل وجه ، وله كتاب الفاروق استوعب فيه أحاديث الصفات وآثارها ، ولم يسبق إلى مثله ، وكتاب ذم الكلام وأهله طريقته فيه أحسن طريقة ، وكتاب لطيف في أصول الدين ، يسلك فيه طريقة أهل الإثبات ويقررها ، وله مع الجهمية المقامات المشهودة ، وسعوا بقتله إلى السلطان مرارا عديدة ، والله يعصمه منهم ، ورموه بالتشبيه والتجسيم ، على عادة بهت الجهمية والمعتزلة لأهل السنة والحديث ، الذين لم يتحيزوا إلى مقالة غير ما دل عليه الكتاب والسنة .

ولكنه - رحمه الله - كانت طريقته في السلوك مضادة لطريقته في الأسماء والصفات ، فإنه لا يقدم على الفناء شيئا ، ويراه الغاية التي يشمر إليها السالكون ، والعلم الذي يؤمه السائرون ، واستولى عليه ذوق الفناء وشهود الجمع ، وعظم موقعه عنده ، واتسعت إشاراته إليه ، وتنوعت به الطرق الموصلة إليه ، علما وحالا وذوقا ، فتضمن ذلك تعطيلا من العبودية ، باديا على صفحات كلامه . وزان تعطيل الجهمية لما اقتضته أصولهم من نفي الصفات .

[ ص: 276 ] ولما اجتمع التعطيلان لمن اجتمعا له - من السالكين - تولد منهما القول بوحدة الوجود ، المتضمن لإنكار الصانع وصفاته ، وعبوديته ، وعصم الله أبا إسماعيل باعتصامه بطريقة السلف في إثبات الصفات ، فأشرف من عقبة الفناء على وادي الاتحاد بأرض الحلول ، فلم يسلك فيها ، ولوقوفه على عقبته ، وإشرافه على تلك الربوع الخراب ، ودعوة الخلق إلى الوقوف على تلك العقبة ، أقسمت الاتحادية بالله جهد أيمانهم إنه لمعهم ، ومنهم ، وحاشاه .

وتولى شرح كتابه أشدهم في الاتحاد طريقة ، وأعظمهم فيه مبالغة وعنادا لأهل الفرق العفيف التلمساني ونزل الجمع الذي يشير إليه صاحب المنازل على جمع الوجود ، وهو لم يرد به - حيث ذكره - إلا جمع الشهود ، ولكن الألفاظ مجملة ، وصادفت قلبا مشحونا بالاتحاد ، ولسانا فصيحا متمكنا من التعبير عن المراد ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

التالي السابق


الخدمات العلمية