فصل هل يضمن السارق
واختلف في هل من شرطها ضمان العين المسروقة لربها ؟ توبة السارق إذا قطعت يده ،
وأجمعوا على أن من شرط صحة توبته أداؤها إليه ، إذا كانت موجودة بعينها ، وإنما اختلفوا إذا كانت تالفة ، فقال ، الشافعي وأحمد : من تمام توبته ضمانها لمالكها ، ويلزمه ذلك ، موسرا كان أو معسرا ، وقال أبو حنيفة : إذا قطعت يده وقد استهلكت العين لم يلزمه ضمانها ، ولا تتوقف صحة توبته على الضمان ، لأن قطع اليد هو مجموع الجزاء ، والتضمين عقوبة زائدة عليه لا تشرع .
قال : وهذا بخلاف ما إذا كانت العين قائمة ، فإن صاحبها قد وجد عين ماله فلم يكن أخذها عقوبة ثانية ، بخلاف التضمين ، فإنه غرامة ، وقد قطع طرفه ، فلا نجمع عليه غرامة الطرف وغرامة المال .
قالوا : ولهذا لم يذكر الله في عقوبة السارق والمحارب غير إقامة الحد عليهما ، ولو كان الضمان لما أتلفوه واجبا لذكره مع الحد ، ولما جعل مجموع جزاء المحاربين ما ذكره من العقوبة بأداة " إنما " التي هي عندكم للحصر ، فقال إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا الآية ، ومدلول هذا الكلام عند من يجعل أداة " إنما " للحصر أنه لا جزاء لهم غير ذلك .
قالوا : وقد روى في سننه عن النسائي رضي الله عنه عبد الرحمن بن عوف . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى في السارق إذا أقيم عليه الحد أنه لا غرم عليه
قالوا : وهذا هو المستقر في فطر الناس ، وعليه عملهم أنهم يقطعون السراق ، ولا يغرمونهم ما أتلفوه من أموال الناس ، وما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن .
[ ص: 373 ] قالوا : ولأنها لو ثبتت في ذمته بعد القطع لكان قد ملكها ، إذ لا يجتمع لربها البدل والمبدل ، وثبوت بدلها في ذمته يستلزم تقدير ملكها ، وهو شبهة في إسقاط القطع .
وأصحاب القول الأول يقولون : هذه العين تعلق بها حقان ، حق الله ، وحق لمالكها ، وهما حقان متغايران لمستحقين متباينين ، فلا يبطل أحدهما الآخر بل يستوفيان معا ، لأن القطع حق الله ، والضمان حق للمالك ، ولهذا لا يسقط القطع بإسقاطه بعد الرفع إلى الإمام ، ولو أسقط الضمان سقط .
وهذا كما إذا أكره أمة غيره على الزنا لزمه الحد لحق الله ، والمهر لحق السيد ، وكذلك إذا أكره الحرة على الزنا أيضا ، بل لو زنا بأمة ثم قتلها ، لزمه حد الزنا وقيمتها لمالكها ، وهو نظير ما إذا سرقها ، ثم قتلها ، قطعت يده لسرقتها وضمنها لمالكها .
قالوا : وكذلك إذا قتل في الإحرام صيدا مملوكا لمالكه ، فعليه الجزاء لحق الله وقيمة الصيد لمالكه ، وكذلك إذا غصب خمر ذمي وشربها لزمه الحد حقا لله ، ولزمه عندكم ضمانها للذمي ، ولم يلزمه ضمان عند الجمهور ، لأنها ليست بمال ، فلا تضمن بالإتلاف كالميتة .
قالوا : وأما قولكم : إن قطع اليد مجموع الجزاء ، إن أردتم أنه مجموع العقوبة فصحيح ، فإنه لم يبق عليه عقوبة ثانية ، ولكن الضمان ليس بعقوبة للسرقة ، ولهذا يجب في حق غير الجاني ، كمن أتلف مال غيره خطأ أو إكراها ، أو في حال نومه ، أو أتلفه إتلافا مأذونا له فيه ، كالمضطر إلى أكله ، أو المضطر إلى إلقائه في البحر لإنجاء السفينة ، ونحو ذلك ، فليس الضمان من العقوبة في شيء .
وأما قولكم : إن الله لم يذكر في القرآن تضمين السارق والمحارب ، فهو لم ينفه أيضا ، وإنما سكت عنه ، فحكمه مأخوذ من قواعد الشرع ونصوصه كقوله : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وهذا قد اعتدى بالإتلاف ، فيعتدى عليه بالتضمين ، ولهذا أوجبنا رد العين إذا كانت قائمة ، ولم يذكر في القرآن ، وليس هذا من باب الزيادة على النص ، بل من باب إعمال النصوص كلها ، لا يعطل بعضها ويعمل ببعضها ، وكذلك الجواب عن قوله تعالى في المحاربين إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله أي عقوبتهم .
[ ص: 374 ] قالوا : وأما حديث فمنقطع لا يثبت ، يرويه عبد الرحمن بن عوف سعد بن إبراهيم عن منصور ، وقد طعن في الحديث ابن المنذر ، فقال : سعد بن إبراهيم مجهول ، وقال : الحديث ليس بالقوي . ابن عبد البر
وأما استقرار ذلك في فطر الناس فمن قال : إنه مستقر في فطرهم أن الغني الواجد إذا سرق مال فقير محتاج ، أو يتيم وأتلفه ، وقطعت يده أنه لا يضمن مال هذا الفقير واليتيم ، مع تمكنه من الضمان ، وقدرته عليه ، وضرورة صاحبه وضعفه ؟ وهل المستقر في فطر الناس إلا عكس هذا ؟ .
وأما قولكم : لو ثبت في ذمته بعد القطع ، لكان قد ملكها ، فضعيف جدا ، لأنها بالإتلاف قد استقرت في ذمته ، ولهذا له المطالبة ببذلها اتفاقا ، وهذا الاستقرار في ذمته لا يمنع القطع ، فإنه يقطع بعد إتلافها ، واستقرارها في ذمته ، فكيف يزيل القطع ما ثبت في ذمته ، ويكون مبرئا له منه ؟ .
وتوسط فقهاء المدينة مالك ، وغيره بين القولين ، فقالوا : إن كان له مال ضمنها بعد القطع ، وإن لم يكن له مال فلا ضمان عليه .
وهذا استحسان حسن جدا ، وما أقربه من محاسن الشرع ، وأولاه بالقبول ، والله سبحانه وتعالى أعلم .