الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل الإثم والعدوان

وأما الإثم والعدوان فهما قرينان ، قال الله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وكل منهما إذا أفرد تضمن الآخر ، فكل إثم عدوان ، إذ هو فعل ما نهى الله عنه ، أو ترك ما أمر الله به ، فهو عدوان على أمره ونهيه ، وكل عدوان إثم ، فإنه يأثم به صاحبه ، ولكن عند اقترانهما فهما شيئان بحسب متعلقهما ووصفهما .

[ ص: 375 ] فالإثم ما كان محرم الجنس كالكذب ، والزنا ، وشرب الخمر ، ونحو ذلك ، والعدوان ما كان محرم القدر والزيادة .

فالعدوان : تعدي ما أبيح منه إلى القدر المحرم والزيادة ، كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه ، إما بأن يتعدى على ماله ، أو بدنه أو عرضه ، فإذا غصبه خشبة لم يرض عوضها إلا داره ، وإذا أتلف عليه شيئا أتلف عليه أضعافه ، وإذا قال فيه كلمة قال فيه أضعافها ، فهذا كله عدوان وتعد للعدل .

وهذا العدوان نوعان : عدوان في حق الله ، وعدوان في حق العبد ، فالعدوان في حق الله كما إذا تعدى ما أباح الله له من الوطء الحلال في الأزواج والمملوكات إلى ما حرم عليه من سواهما ، كما قال تعالى والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون وكذلك تعدى ما أبيح له منه قدر معين ، فتعداه إلى أكثر منه ، فهو من العدوان ، كمن أبيح له إساغة الغصة بجرعة من خمر ، فتناول الكأس كلها ، أو أبيح له نظرة الخطبة ، والسوم ، والشهادة ، والمعاملة ، والمداواة ، فأطلق عنان طرفه في ميادين محاسن المنظور ، وأسام طرف ناظره في تلك الرياض والزهور ، فتعدى المباح إلى القدر المحظور ، وحام حول الحمى المحوط المحجور ، فصار ذا بصر حائر ، وقلب عن مكانه طائر ، أرسل طرفه رائدا يأتيه بالخبر فخامر عليه ، وأقام في تلك الخيام ، فبعث القلب في آثاره ، فلم يشعر إلا وهو أسير يحجل في قيوده بين تلك الخيام ، فما أقلعت لحظات ناظره حتى تشحط بينهن قتيلا ، وما برحت تنوشه سيوف تلك الجفون حتى جندلته تجديلا ، هذا خطر العدوان ، وما أمامه أعظم وأخطر ، وهذا فوت الحرمان ، وما حرمه من فوات ثواب من غض طرفه لله عز وجل أجل وأكبر ، سافر الطرف في مفاوز محاسن المنظور إليه ، فلم يربح إلا أذى السفر ، وغرر بنفسه في ركوب تلك البيداء ، وما عرف أن راكبها على أعظم الخطر ؟ ! يا لها من سفرة لم يبلغ المسافر منها ما نواه ، ولم يضع فيها عن عاتقه عصاه ، حتى قطع عليه فيها الطريق ، وقعد له فيها الرصد على كل نقب ومضيق ، لا يستطيع الرجوع إلى وطنه والإياب ، ولا له سبيل إلى المرور والذهاب ، يرى هجير الهاجرة من بعيد ، فيظنه برد الشراب حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب وتيقن أنه كان مغرورا بلامع السراب ، تالله ما استوت هذه الذلة [ ص: 376 ] وتلك اللذة في القيمة فيشتريها بها العارف الخبير ، ولا تقاربا في المنفعة ، فيتحير بينهما البصير ، ولكن على العيون غشاوة فلا تفرق بين مواطن السلامة ومواضع العثور ، والقلوب تحت أغطية الغفلات ، راقدة فوق فرش الغرور فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .

ومن أمثلة العدوان تجاوز ما أبيح من الميتة للضرورة إلى ما لم يبح منها ، إما بأن يشبع ، وإنما أبيح له سد الرمق ، على أحد القولين في مذهب أحمد ، والشافعي ، وأبي حنيفة .

وأباح مالك له الشبع والتزود إذا احتاج إليه ، فإذا استغنى عنها وأكلها واقيا لماله ، وبخلا عن شراء المذكى ونحوه ، كان تناولها عدوانا ، قال تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم قال قتادة ، والحسن : لا يأكلها من غير اضطرار ، ولا يعدو شبعه ، وقيل : " غير باغ " غير طالبها وهو يجد غيرها " ولا عاد " أي لا يتعدى ما حد له منها فيأكل حتى يشبع ، ولكن سد الرمق ، وقال مقاتل : غير مستحل لها ، ولا متزود منها .

وقيل : لا يبغي بتجاوز الحد الذي حد له منها ، ولا يتعدى بتقصيره عن تناوله حتى يهلك ، فيكون قد تعدى حد الله بمجاوزته أو التقصير عنه ، فهذا آثم ، وهذا آثم ، وقال مسروق : من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار ، وهذا أصح القولين في الآية ، وقال ابن عباس وأصحابه والشافعي : غير باغ على السلطان ولا عاد في سفره ، فلا يكون سفر معصية ، وبنوا على ذلك أن العاصي بسفره لا يترخص .

والقول الأول أصح لعشرة أوجه ، ليس هذا موضع ذكرها ، إذ الآية لا تعرض فيها للسفر بنفي ولا إثبات ، ولا للخروج على الإمام ، ولا هي مختصة بذلك ولا سيقت له ، وهي عامة في حق المقيم والمسافر ، والبغي والعدوان فيها يرجعان إلى الأكل المقصود بالنهي ، لا إلى أمر خارج عنه لا تعلق له بالأكل ، ولأن نظير هذا قوله تعالى في الآية الأخرى فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فهذا هو الباغي العادي ، والمتجانف للإثم المائل إلى القدر الحرام من أكلها ، وهذا هو الشرط الذي لا يباح له [ ص: 377 ] بدونه ، ولأنها إنما أبيحت للضرورة ، فتقدرت الإباحة بقدرها ، وأعلمهم أن الزيادة عليها بغي وعدوان وإثم ، فلا تكون الإباحة للضرورة سببا لحله ، والله أعلم .

والإثم والعدوان هما الإثم والبغي المذكوران في سورة الأعراف ، مع أن البغي غالب استعماله في حقوق العباد والاستطالة عليهم .

وعلى هذا فإذا قرن البغي بالعدوان كان البغي ظلمهم بمحرم الجنس ، كالسرقة والكذب ، والبهت والابتداء بالأذى ، والعدوان تعدي الحق في استيفائه إلى أكبر منه ، فيكون البغي والعدوان في حقهم كالإثم والعدوان في حدود الله .

فهاهنا أربعة أمور : حق لله وله حد ، وحق لعباده وله حد ، فالبغي والعدوان والظلم تجاوز الحدين إلى ما وراءهما ، أو التقصير عنهما ، فلا يصل إليهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية