فصل
فإذا استبصر في هذا المشهد ، وتمكن من قلبه ، وباشره وذاق طعمه وحلاوته ترقى منه إلى :
المشهد الثالث عشر
وهو الغاية التي شمر إليها السالكون ، وأمها القاصدون ، ولحظ إليها العاملون .
وهو والابتهاج به ، والفرح والسرور به ، فتقر به عينه ، ويسكن إليه قلبه ، وتطمئن إليه جوارحه ويستولي ذكره على لسان محبه وقلبه ، فتصير خطرات المحبة مكان خطرات المعصية ، وإرادات التقرب إليه وإلى مرضاته مكان إرادة معاصيه ومساخطه ، وحركات اللسان والجوارح بالطاعات مكان حركاتها بالمعاصي ، قد امتلأ قلبه من محبته ، ولهج لسانه بذكره ، وانقادت الجوارح لطاعته ، فإن هذه الكسرة الخاصة لها تأثير عجيب في المحبة لا يعبر عنه . مشهد العبودية والمحبة ، والشوق إلى لقائه ،
ويحكى عن بعض العارفين ، أنه قال : دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها ، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام ، فلم أتمكن من الدخول ، حتى جئت باب الذل والافتقار ، فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه ، ولا مزاحم فيه ولا معوق ، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته ، فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه .
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول : من أراد السعادة الأبدية ، فليلزم عتبة العبودية .
[ ص: 430 ] وقال بعض العارفين : لا طريق أقرب إلى الله من العبودية ، ولا حجاب أغلظ من الدعوى ، ولا ينفع مع الإعجاب والكبر عمل واجتهاد ، ولا يضر مع الذل والافتقار بطالة ، يعني بعد فعل الفرائض .
والقصد : أن هذه الذلة والكسرة الخاصة تدخله على الله ، وترميه على طريق المحبة ، فيفتح له منها باب لا يفتح له من غير هذه الطريق ، وإن كانت طرق لكن الذي يفتح منها من طريق الذل والانكسار والافتقار وازدراء النفس ، ورؤيتها بعين الضعف والعجز والعيب والنقص والذم ، بحيث يشاهدها ضيعة وعجزا ، وتفريطا وذنبا وخطيئة ، نوع آخر وفتح آخر ، والسالك بهذه الطريق غريب في الناس ، وهم في واد وهو في واد ، وهي تسمى طريق الطير ، يسبق النائم فيها على فراشه السعاة ، فيصبح وقد قطع الطريق ، وسبق الركب . بينا هو يحدثك ، إذا به قد سبق الطرف وفات السعاة ، فالله المستعان ، وهو خير الغافرين . سائر الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبوابا من المحبة ،
وهذا الذي حصل له من آثار محبة الله له ، وفرحه بتوبة عبده ، فإنه سبحانه يحب التوابين ، ويفرح بتوبتهم أعظم فرح وأكمله .
فكلما طالع العبد من ربه سبحانه عليه قبل الذنب ، وفي حال مواقعته ، وبعده ، بره به وحلمه عنه ، وإحسانه إليه هاجت من قلبه لواعج محبته والشوق إلى لقائه ، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها ، وأي إحسان أعظم من إحسان من يبارزه العبد بالمعاصي ، وهو يمده بنعمه ، ويعامله بألطافه ، ويسبل عليه ستره ، ويحفظه من خطفات أعدائه المترقبين له أدنى عثرة ينالون منه بها بغيتهم ، ويردهم عنه ، ويحول بينهم وبينه ؟ وهو في ذلك كله بعينه ، يراه ويطلع عليه ، فالسماء تستأذن ربها أن تحصبه ، والأرض تستأذنه أن تخسف به ، والبحر يستأذنه أن يغرقه ، كما في مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه أن يغرق ابن آدم ، والملائكة تستأذنه أن تعاجله وتهلكه ، والرب تعالى يقول : دعوا عبدي ، فأنا أعلم به ، إذ أنشأته من الأرض ، إن كان عبدكم فشأنكم به ، وإن كان عبدي فمني وإلي ، عبدي وعزتي وجلالي إن أتاني ليلا قبلته ، وإن أتاني نهارا قبلته ، وإن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ، وإن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ، وإن مشى إلي هرولت إليه ، وإن استغفرني غفرت له ، وإن استقالني أقلته ، وإن تاب إلي تبت عليه ، من أعظم مني جودا وكرما ، وأنا الجواد الكريم ؟ عبيدي يبيتون يبارزونني بالعظائم ، وأنا أكلؤهم في مضاجعهم ، وأحرسهم على فرشهم ، من أقبل إلي تلقيته من بعيد ، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد ، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد ، ومن أراد مرادي أردت ما يريد ، أهل ذكري أهل [ ص: 431 ] مجالستي ، وأهل شكري أهل زيادتي ، وأهل طاعتي أهل كرامتي ، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب ، لأطهرهم من المعايب .
ولنقتصر على هذا القدر من فإنه ما أطيل الكلام فيها إلا لفرط الحاجة والضرورة إلى معرفتها ، ومعرفة أحكامها ، وتفاصيلها ومسائلها ، والله الموفق لمراعاة ذلك ، والقيام به عملا وحالا ، كما وفق له علما ومعرفة ، فما خاب من توكل عليه ، ولاذ به ولجأ إليه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . ذكر التوبة وأحكامها وثمراتها ،