الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قال : وهو على ثلاث درجات : الدرجة الأولى : الانبساط مع الخلق . وهو أن تعتزلهم ، ضنا على نفسك ، أو شحا على حظك . وتسترسل لهم في فضلك . وتسعهم بخلقك ، وتدعهم يطؤونك . والعلم قائم ، وشهود المعنى دائم .

يريد : لا تبخل عليهم بنفسك . فيحملك ذلك البخل على اعتزالهم . وتشح بحظك في الخلوة . وراحة العزلة : أن تذهب بمخالطتهم ، بل تحملك السماحة والجود والبذل على أن تترك ذلك لراحة إخوانك بك ، وانتفاعهم بمجالستك . فتتكرم عليهم بحظك في عزلتك وخلوتك ، وتؤثرهم به على نفسك .

وهذا من الفتوة . والمروءة والتخلق ضد من أضدادها .

قوله : وتسترسل لهم من فضلك .

يعني : إذا استرسلت معهم ، ولم تجذب عنهم عنانك : نالوا من فضلك . فيكون استرسالك سببا لنيلهم لفضلك ، وقبض العنان سببا للحرمان .

[ ص: 338 ] وتسعهم بخلقك باحتمال ما يبدو منهم من سوء العشرة ، فخذ منهم ما أمر الله نبيه أن يأخذه من أخلاق الناس . وهو العفو .

وتدعهم يطؤونك أي يدوسونك من لينك وتواضعك ، وخفض جناحك ، بحيث لا تترك لنفسك بينهم رتبة تتقاضاهم أن يحترموك لأجلها . هذا معنى كلامه .

قوله : والعلم قائم . وشهود المعنى دائم .

أما قيام العلم : فهو أن يكون هذا الاسترسال موافقا للشرع، غير مخرج عن حدوده وآدابه ، بحيث لا تحملهم على تعدي حدود الله ، وتضييع حقه وحقوق عباده .

وأما دوام شهود المعنى فهو حفظ حالك وقلبك مع الله ، ودوام إقبالك عليه بقلبك كله . فأنت معهم مسترسل بشبحك ورسمك وصورتك فقط . ومفارقتهم بقلبك وسرك ، مشاهدا للمعنى الذي به حياتك . فإذا فارقته كنت كالحوت إذا فارق الماء . فإن هذا المعنى هو حياة القلب والروح . فإذا فات العبد علته الكآبة ، وغمره الهم والغم والأحزان ، وتلون في أفعاله وأقواله . وتاه قلبه في الأودية والشعاب . وفقد نعيم الدنيا والآخرة . وهذا هو الذي أشار إليه يحيى الصرصري في قوله :

إذا صار قلب العبد للسر معدنا تلوح على أعطافه بهجة السنا وإن فاته المعنى علته كآبة فأصبح في أفعاله متلونا فمتى كان شهود هذا المعنى قائما في قلبك : لا يضرك مخالطة من لا تسلبك إياه مخالطته والانبساط إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية