فصل الحياة
قال صاحب المنازل :
( باب
nindex.php?page=treesubj&link=29411الحياة ) قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=122أومن كان ميتا فأحييناه .
استشهاده بهذه الآية في هذا الباب ظاهر جدا ، فإن المراد بها : من كان ميت القلب بعدم روح العلم والهدى والإيمان ، فأحياه الرب تعالى بروح أخرى غير الروح التي أحيا بها بدنه ، وهي روح معرفته وتوحيده ، ومحبته وعبادته وحده لا شريك له ؛ إذ لا حياة للروح إلا بذلك ، وإلا فهي في جملة الأموات ، ولهذا وصف الله تعالى من عدم ذلك بالموت ، فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=122أومن كان ميتا فأحييناه ، وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=80إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء [ ص: 243 ] وسمي وحيه روحا ، لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح ، فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فأخبر أنه روح تحصل به الحياة ، وأنه نور تحصل به الإضاءة ، وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=2ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ، وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=15رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق nindex.php?page=treesubj&link=29411فالوحي حياة الروح ، كما أن الروح حياة البدن ، ولهذا من فقد هذه الروح فقد فقد الحياة النافعة في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فحياته حياة البهائم ، وله المعيشة الضنك ، وأما في الآخرة فله جهنم لا يموت فيها ولا يحيا .
وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته ، فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=97من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون وقد فسرت الحياة الطيبة بالقناعة والرضا ، والرزق الحسن وغير ذلك ، والصواب : أنها حياة القلب ونعيمه ، وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله ، ومحبته ، والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها ، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة ، كما كان بعض العارفين يقول : إنه لتمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب ، وقال غيره : إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا .
وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح ، فإنه ملكها ، ولهذا جعل الله المعيشة الضنك لمن أعرض عن ذكره ، وهي عكس الحياة الطيبة .
وهذه الحياة الطيبة تكون في الدور الثلاث ، أعني : دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار ، والمعيشة الضنك أيضا تكون في الدور الثلاث ، فالأبرار في النعيم هنا وهنالك ، والفجار في الجحيم هنا وهنالك ، قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=30للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ، وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله [ ص: 244 ] فذكر الله سبحانه وتعالى ، ومحبته وطاعته ، والإقبال عليه ضامن لأطيب الحياة في الدنيا والآخرة ، والإعراض عنه والغفلة ومعصيته كفيل بالحياة المنغصة ، والمعيشة الضنك في الدنيا والآخرة .
فَصْلُ الْحَيَاةِ
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ :
( بَابُ
nindex.php?page=treesubj&link=29411الْحَيَاةِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=122أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ .
اسْتِشْهَادُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ ظَاهِرٌ جِدًّا ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا : مَنْ كَانَ مَيِّتَ الْقَلْبِ بِعَدَمِ رُوحِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْإِيمَانِ ، فَأَحْيَاهُ الرَّبُّ تَعَالَى بِرُوحٍ أُخْرَى غَيْرِ الرُّوحِ الَّتِي أَحْيَا بِهَا بَدَنَهُ ، وَهِيَ رُوحُ مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ ، وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ؛ إِذْ لَا حَيَاةَ لِلرُّوحِ إِلَّا بِذَلِكَ ، وَإِلَّا فَهِيَ فِي جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ ، وَلِهَذَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عُدِمَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=122أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ، وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=80إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ [ ص: 243 ] وَسُمِّيَ وَحْيُهُ رُوحًا ، لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ ، فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رُوحٌ تَحْصُلُ بِهِ الْحَيَاةُ ، وَأَنَّهُ نُورٌ تَحْصُلُ بِهِ الْإِضَاءَةُ ، وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=2يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ، وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=15رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ nindex.php?page=treesubj&link=29411فَالْوَحْيُ حَيَاةُ الرُّوحِ ، كَمَا أَنَّ الرُّوحَ حَيَاةُ الْبَدَنِ ، وَلِهَذَا مَنْ فَقَدَ هَذِهِ الرُّوحَ فَقَدْ فَقَدَ الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَحَيَاتُهُ حَيَاةُ الْبَهَائِمِ ، وَلَهُ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَهُ جَهَنَّمُ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا .
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ لِأَهْلِ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ ، فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=97مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَدْ فُسِّرَتِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ بِالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا ، وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَالصَّوَابُ : أَنَّهَا حَيَاةُ الْقَلْبِ وَنَعِيمُهُ ، وَبَهْجَتُهُ وَسُرُورُهُ بِالْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةُ اللَّهِ ، وَمَحَبَّتُهُ ، وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ لَا حَيَاةَ أَطْيَبُ مِنْ حَيَاةِ صَاحِبِهَا ، وَلَا نَعِيمَ فَوْقَ نَعِيمِهِ إِلَّا نَعِيمَ الْجَنَّةِ ، كَمَا كَانَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ يَقُولُ : إِنَّهُ لَتَمُرُّ بِي أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : إِنَّهُ لَيَمُرُّ بِالْقَلْبِ أَوْقَاتٌ يَرْقُصُ فِيهَا طَرَبًا .
وَإِذَا كَانَتْ حَيَاةُ الْقَلْبِ حَيَاةً طَيِّبَةً تَبِعَتْهُ حَيَاةُ الْجَوَارِحِ ، فَإِنَّهُ مَلَكَهَا ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ ، وَهِيَ عَكْسُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ .
وَهَذِهِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَكُونُ فِي الدُّورِ الثَّلَاثِ ، أَعْنِي : دَارَ الدُّنْيَا ، وَدَارَ الْبَرْزَخِ ، وَدَارَ الْقَرَارِ ، وَالْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ أَيْضًا تَكُونُ فِي الدُّورِ الثَّلَاثِ ، فَالْأَبْرَارُ فِي النَّعِيمِ هُنَا وَهُنَالِكَ ، وَالْفُجَّارُ فِي الْجَحِيمِ هُنَا وَهُنَالِكَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=30لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ، وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [ ص: 244 ] فَذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَمَحَبَّتُهُ وَطَاعَتُهُ ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ ضَامِنٌ لِأَطْيَبِ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَالْغَفْلَةُ وَمَعْصِيَتُهُ كَفِيلٌ بِالْحَيَاةِ الْمُنَغَّصَةِ ، وَالْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .