فصل
الظفر بحقيقة الشيء ، إن كان في باب العلم والمعرفة فهو معرفة تجري فوق حدود العلم ، وإن كان للمعاين كان معاينة ، وهي فوق المعرفة ، وإن كان للطالب فهو جمعية له بكله على مطلوبه ، وإن كان لصاحب الجمع كان جمعية وجودية ، تغنيه عما سوى الله تعالى .
قوله " هو اسم لثلاث معان ، أولها : " العلم اللدني - عندهم - هو المعرفة ، وسمي لدنيا ؛ لأنه تعريف من تعريفات الحق ، وارد على قلب العبد ، يقطع الوساوس ، ويزيل الشكوك ، ويحل محل العيان ، فيصير لصاحبه كالوجدانيات التي لا يمكن دفعها عن النفس ، ولذلك قال : يقطع علوم الشواهد ، فعلوم الشواهد - عنده - هي علوم الاستدلال ، وهي تنقطع بوجدان هذا العلم ، أي يرتقي صاحبه عنها إلى ما هو أكمل منها ، لا أنها يبطل حكمها ، ويزول رسمها ، ولكن صاحب الوجود قد ارتقى عن العلم الحاصل بالشواهد إلى العلم المدرك بالذوق والحس الباطن . وجود علم لدني ، يقطع علوم الشواهد
قوله " في صحة مكاشفة الحق إياك " متعلق بقوله " يقطع علوم الشواهد " أي يقطعها في كون الحق كشف لك كشفا صحيحا ، قطع عنك الحاجة إلى الشواهد والأدلة .
قوله : " والثاني : ، أي وجود معاينة لا وجود خبر ، ومراده : معاينة القلب له بحقيقة اليقين . وجود الحق وجود عين "
قوله " منقطعا عن مساغ الإشارة " لما كانت الدرجة الأولى وجود علم ، وهذه وجود عيان : قام العيان فيها مقام الإشارة ، فأغنى عنها ، فإن العلم قد يكون ضروريا ، وقد يكون نظريا ، والضروري : أبعد عن الالتفات ، وعن تطرق الآفات ، وعدم الغفلات ، فصاحبه يشاهد معلومه بنور البصيرة ، كما يشاهد المبصرات بنور البصر ، ولما كانت مرتبة المعرفة فوق مرتبة العلم عندهم ، ومرتبة الشهود فوق مرتبة المعرفة ومرتبة الوجود فوق مرتبة الشهود ، كانت العبارة في مرتبة العلم والمعرفة ، والإشارة في مرتبة الشهود ، فإن وصل إلى مرتبة الوجود انقطعت الإشارات ، [ ص: 386 ] واضمحلت العبارات ، فإن صاحب الوجود في حضرة الوجود ، فما له وما للإشارة ؟ إذ الإشارة في هذا الباب إنما تكون إلى غائب بوجه ما .
قوله : " والثالث : وجود مقام اضمحلال رسم الوجود فيه بالاستغراق في الأولية " .
هذا كلام فيه قلق وتعقيد ، وهو باللغز أشبه منه بالبيان .
وحقيقة هذه الدرجة : أنها تشغل صاحبها بموجوده عن إدراك كونه واجدا ، فلم تبق فيه بقية يتفطن بها لكونه مدركا لموجوده ، لاستيلائه على قلبه ، فقد قهره ومحقه عن شعوره بكونه واجدا لموجوده ، فهو حاضر مع الحق ، غائب عن كل ما سواه .
فالدرجة الأولى : وجود علم ، والثانية : وجود عيان ، والثالثة : وجود مقام اضمحل فيه ما سوى الموجود ، وهذا معنى " اضمحلال رسم الوجود فيه " ، ولهذا قال : بالاستغراق في الأولية ، فإنه إذا استغرق في شهود الأولية اضمحل في هذا الشهود كل حادث ، والله أعلم .