قال صاحب المنازل : اللطيفة الثالثة : أن . مشاهدة العبد الحكم لم تدع له استحسان حسنة ، ولا استقباح سيئة ، لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم
هذا الكلام - إن أخذ على ظاهره - فهو من أبطل الباطل ، الذي لولا إحسان الظن بصاحبه وقائله ، ومعرفة قدره من الإمامة والعلم والدين ، لنسب إلى لازم هذا الكلام ، ولكن من عدا المعصوم - صلى الله عليه وسلم - فمأخوذ من قوله ومتروك ، ومن ذا الذي لم تزل به القدم ، ولم يكب به الجواد ؟ .
ومعنى هذا أن العبد ما دام في مقام التفرقة ، فإنه يستحسن بعض الأفعال ، ويستقبح بعضها ، نظرا إلى ذواتها وما افترقت فيه ، فإذا تجاوزها نظر إلى مصدرها الأول ، وصدورها عن عين الحكم ، واجتماعها كلها في تلك العين ، وانسحاب ذيل المشيئة عليها ، ووحدة المصدر ، وهو المشيئة الشاملة العامة الموجبة ، فهي بالنسبة إلى مصدر الحكم ، وعين المشيئة لا توصف بحسن ولا بقبح ، إذ الحسن والقبح إنما عرضا لها عند قيامها بالكون ، وجريانها عليه ، فهي بمنزلة نور الشمس واحد في نفسه غير متلون ، ولا يوصف بحمرة ولا صفرة ولا خضرة ، فإذا اتصل بالمحال المتلونة وصف حينئذ بحسب تلك المحال ، لإضافته إليها ، واتصاله بها ، فيرى أحمر وأصفر وأخضر ، وهو بريء من ذلك كله ، إذا صعد من تلك المحال إلى مصدره الأول ، المجرد عن القوابل ، فهذا أحسن ما يحمل عليه كلامه .
[ ص: 243 ] على أن له محملا آخر مبنيا على أصول فاسدة ، وهي أن إرادة الرب تعالى هي عين محبته ورضاه ، فكل ما شاءه فقد أحبه ورضيه ، وكل ما لم يشأه فهو مسخوط له مبغوض ، فالمبغوض المسخوط هو ما لم يشأه ، والمحبوب المرضي هو ما شاءه .
هذا القدرية الجبرية ، المنكرين للحكم والتعليل والأسباب ، وتحسين العقل وتقبيحه ، وأن الأفعال كلها سواء ، لا يختص بعضها بما صار حسنا لأجله ، وبعضها بما صار قبيحا لأجله ، ويجوز في العقل أن يأمر بما نهي عنه ، وينهى عما أمر به ، ولا يكون ذلك مناقضا للحكمة . أصل عقيدة
إذ الحكمة ترجع عندهم إلى مطابقة العلم الأزلي لمعلومه ، والإرادة الأزلية لمرادها ، والقدرة لمقدورها ، فإذا الأفعال بالنسبة إلى المشيئة والإرادة مستوية ، لا توصف بحسن ولا قبح ، فإذا تعلق بها الأمر والنهي صارت حينئذ حسنة وقبيحة وليس حسنها وقبحها أمرا زائدا على كونها مأمورا بها ومنهيا عنها ، فعلى هذا إذا صعد العبد من تفرقة الأمر والنهي إلى جمع المشيئة لم يستحسن حسنة ، ولم يستقبح قبيحة ، فإذا نزل فرق الأمر صح له الاستحسان والاستقباح .
فهذا محمل ثان لكلامه .
وله محمل ثالث - هو أبعد الناس منه ، ولكن قد حمل عليه - وهو أن السالك ما دام محجوبا عن شهود الحقيقة بشهود الطاعة والمعصية ، رأى الأفعال بعين الحسن والقبح ، فرأى منها الطاعة والمعصية ، فإذا ترقى إلى شهود الحقيقة الأولى ، وهي الحقيقة الكونية ، ورأى شمول الحكم الكوني للكائنات وإحاطته بها ، وعدم خروج ذرة منها عنه ، زال عنه استقباح شيء من الأفعال ، وشهدها كلها طاعات للأقدار والمشيئة ، وفي مثل هذا الحال يقول : إن كنت عصيت الأمر ، فقد أطعت الإرادة ، ويقول :
[ ص: 244 ]
أصبحت منفعلا لما تختاره مني ففعلي كله طاعات
فإذا ترقى مرتبة أخرى ، وزال عنه الفرق بين الرب والعبد - كما زال عنه في المرتبة الثانية الفرق بين المحبوب والمسخوط ، والمأمور والمحظور - قال : ما ثم طاعة ، ولا معصية ، إذ الطاعة والمعصية إنما يكونان بين اثنين ضرورة ، والمطيع عين المطاع ، فما هاهنا غير ، فالوحدة المطلقة تنفي الطاعة والمعصية ، فالصعود من وحدة الفعل إلى وحدة الوجود ، يزيل عنه - بزعمه - توهم الانقسام إلى طاعة ومعصية ، كما كان الصعود من تفرقة الأمر إلى وحدة الحكم يزيل عنه ثبوت المعصية .وهذا عند القوم من الأسرار التي لا يستجيزون كشفها إلا لخواصهم ، وأهل الوصول منهم .
لكن صاحب المنازل بريء من هؤلاء وطريقتهم ، وهو مكفر لهم ، بل مخرج لهم من جملة الأديان ، ولكن ذكرنا ذلك لأنهم يحملون كلامه عليه ، ويظنونه منهم .
فاعلم أن هذا مقام عظيم ، زلت فيه أقدام طائفتين من الناس : طائفة من أهل الكلام والنظر ، وطائفة من أهل السلوك والإرادة .
فنفى لأجله كثير من النظار التحسين والتقبيح العقليين ، وجعلوا الأفعال كلها [ ص: 245 ] سواء في نفس الأمر ، وأنها غير منقسمة في ذواتها إلى حسن وقبيح ، ولا يميز للفعل عندهم منشأ حسن ولا قبح ، ولا مصلحة ولا مفسدة ، ولا فرق بين السجود للشيطان ، والسجود للرحمن في نفس الأمر ، ولا بين الصدق والكذب ، ولا بين السفاح والنكاح ، إلا أن الشارع حرم هذا وأوجب هذا ، فمعنى حسنه كونه مأمورا به ، لا أنه منشأ مصلحة ، ومعنى قبحه كونه منهيا عنه ، لا أنه منشأ مفسدة ، ولا فيه صفة اقتضت قبحه ، ومعنى حسنه أن الشارع أمر به ، لا أنه منشأ مصلحة ، ولا فيه صفة اقتضت حسنه .
وقد بينا بطلان هذا المذهب من ستين وجها في كتابنا المسمى تحفة النازلين بجوار رب العالمين وأشبعنا الكلام في هذه المسألة هناك ، وذكرنا جميع ما احتج به أرباب هذا المذهب ، وبينا بطلانه .
فإن هذا المذهب - بعد تصوره ، وتصور لوازمه - يجزم العقل ببطلانه ، وقد دل القرآن على فساده في غير موضع ، والفطرة أيضا وصريح العقل .
فإن ، والعفة والإحسان ، ومقابلة النعم بالشكر ، وفطرهم على استقباح أضدادها ، ونسبة هذا إلى فطرهم وعقولهم كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم ، وكنسبة رائحة المسك ورائحة النتن إلى مشامهم ، وكنسبة الصوت اللذيذ وضده إلى أسماعهم ، وكذلك كل ما يدركونه بمشاعرهم الظاهرة والباطنة ، فيفرقون بين طيبه وخبيثه ، ونافعه وضاره . الله سبحانه فطر عباده على استحسان الصدق والعدل
[ ص: 246 ] وقد زعم بعض نفاة التحسين والتقبيح أن هذا متفق عليه ، وهو راجع إلى الملائمة والمنافرة ، بحسب اقتضاء الطباع ، وقبولها للشيء ، وانتفاعها به ، ونفرتها من ضده .
قالوا : وهذا ليس الكلام فيه ، وإنما الكلام في كون الفعل متعلقا للذم والمدح عاجلا ، والثواب والعقاب آجلا ، فهذا الذي نفيناه ، وقلنا : إنه لا يعلم إلا بالشرع ، قال خصومنا : إنه معلوم بالعقل ، والعقل مقتض له .
فيقال : هذا فرار من الزحف ، إذ هاهنا أمران متغايران لا تلازم بينهما .
أحدهما : هل الفعل نفسه مشتمل على صفة اقتضت حسنه وقبحه ، بحيث ينشأ الحسن والقبح منه ، فيكون منشأ لهما أم لا ؟
والثاني : أن الثواب المرتب على حسن الفعل ، والعقاب المرتب على قبحه ، ثابت - بل واقع - بالعقل ، أم لا يقع إلا بالشرع ؟
ولما ذهب المعتزلة ومن وافقهم إلى تلازم الأصلين استطلتم عليهم ، وتمكنتم من إبداء تناقضهم وفضائحهم ، ولما نفيتم أنتم الأصلين جميعا استطالوا عليكم [ ص: 247 ] ، وأبدوا من فضائحكم وخلافكم لصريح العقل والفطرة ما أبدوه ، وهم غلطوا في تلازم الأصلين ، وأنتم غلطتم في نفي الأصلين .
والحق الذي لا يجد التناقض إليه السبيل أنه لا تلازم بينهما ، وأن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة ، كما أنها نافعة وضارة ، والفرق بينهما كالفرق بين المطعومات والمشمومات والمرئيات ، ولكن لا يترتب عليهما ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي ، وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحا موجبا للعقاب مع قبحه في نفسه ، بل هو في غاية القبح ، والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل ، فالسجود للشيطان والأوثان ، والكذب والزنا ، والظلم والفواحش ، كلها قبيحة في ذاتها ، والعقاب عليها مشروط بالشرع .
فالنفاة يقولون : ليست في ذاتها قبيحة ، وقبحها والعقاب عليها إنما ينشأ بالشرع .
والمعتزلة تقول : قبحها والعقاب عليها ثابتان بالعقل .
وكثير من الفقهاء من الطوائف الأربع يقولون : قبحها ثابت بالعقل ، والعقاب متوقف على ورود الشرع ، وهو الذي ذكره من الشافعية ، سعد بن علي الزنجاني وأبو الخطاب من الحنابلة ، وذكره الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة نصا ، لكن المعتزلة منهم يصرحون بأن العقاب ثابت بالعقل .
وقد دل القرآن أنه لا تلازم بين الأمرين ، وأنه لا يعاقب إلا بإرسال الرسل ، وأن الفعل نفسه حسن وقبيح ، ونحن نبين دلالته على الأمرين .
[ ص: 248 ] أما الأول : ففي قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وفي قوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وفي قوله : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء فلم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل ، بل للنذر ، وبذلك دخلوا النار ، وقال تعالى يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين وفي الزمر ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا ثم قال في الأنعام بعدها ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون وعلى أحد القولين - وهو أن يكون المعنى لم يهلكهم بظلمهم قبل إرسال الرسل - فتكون الآية دالة على الأصلين : أن أفعالهم وشركهم ظلم قبيح قبل البعثة ، وأنه لا يعاقبهم عليه إلا بعد الإرسال ، وتكون هذه الآية في دلالتها على الأمرين نظير الآية التي في القصص ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فهذا يدل على أن ما قدمت أيديهم سبب لنزول المصيبة بهم ، ولولا قبحه لم يكن سببا ، لكن امتنع إصابة المصيبة لانتفاء شرطها ، وهو عدم مجيء الرسول إليهم ، فمذ جاء الرسول انعقد السبب ، ووجد الشرط ، فأصابهم سيئات ما عملوا ، وعوقبوا بالأول والآخر .