والنفخ المسموع مفسد للصلاة عند أبي حنيفة ، وجملة الكلام فيه أن النفخ على ضربين مسموع وغير مسموع ، وغير المسموع منه لا يفسد الصلاة بالإجماع ; لأنه ليس بكلام معهود وهو الصوت المنظوم المسموع ولا عمل كثير ، إلا أنه يكره لما مر أن ومحمد مكروه وإن كان قليلا ، فأما المسموع منه فإنه يفسد الصلاة في قول إدخال ما ليس من أعمال الصلاة في الصلاة من غير ضرورة أبي حنيفة سواء أراد به التأفيف أو لم يرد ، وكان ومحمد يقول أولا : إن أراد به التأفيف بأن قال : أف أو تف على وجه الكراهة للشيء ، وتبعيده يفسد ، وإن لم يرد به التأفيف لا يفسد ، ثم رجع وقال : لا يفسد أراد به التأفيف أو لم يرد . أبو يوسف
وجه قوله الأول أنه إذا أراد به التأفيف كان من كلام الناس لدلالته على الضمير فيفسد وإذا لم يرد به التأفيف لم يكن من كلام الناس لعدم دلالته على الضمير فلا يفسد كالتنحنح .
وجه قوله الأخير أنه ليس من كلام الناس في الوضع فلا يصير من كلامهم بالقصد والإرادة ولأن أحد الحرفين ههنا من الزوائد التي يجمعها قولك اليوم تنساه والحرف الزائد ملحق بالعدم بقي حرف واحد ، وأنه ليس بكلام حتى لو كانت ثلاثة أحرف أصلية أو زائدة أو كانا حرفين أصليين يوجب فساد الصلاة ولأبي حنيفة أن الكلام في العرف اسم للحروف المنظومة المسموعة وأدنى ما يحصل به انتظام الحروف حرفان ، وقد وجد في التأفيف وليس من شرط كون الحروف المنظومة كلاما في العرف أن تكون مفهومة المعنى فإن الكلام العربي نوعان ، مهمل ومستعمل ولهذا لو تكلم بالمهملات فسدت صلاته مع ما أن التأفيف مفهوم المعنى ; لأنه وضع في اللغة للتبعيد على طريق الاستخفاف حتى حرم استعمال هذا اللفظ في حق الأبوين احتراما لهما لقوله تعالى { ومحمد ولا تقل لهما أف } وهذا النص من أقوى الحجج لهما أن الله تعالى سمى التأفيف قولا فدل أنه كلام ، والدليل على أن النفخ كلام ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { رباح حين مر به وهو ينفخ التراب من موضع سجوده في صلاته : لا تنفخ فإن النفخ كلام } ، وفي رواية أما علمت أن من لغلام يقال له فقد تكلم ؟ وهذا نص في الباب . نفخ في صلاته
وأما عن عذر فإنه لا يفسد الصلاة بلا خلاف وأما من غير عذر فقد اختلف المشايخ فيه على قولهما قال بعضهم : يفسد لوجود الحرفين من حروف الهاء ، وقال بعضهم إن تنحنح لتحسين الصوت لا يفسد ; لأن ذلك سعي في أداء الركن وهو القراءة على وصف الكمال ، وروى إمام الهدى الشيخ التنحنح أبو منصور الماتريدي السمرقندي عن الشيخ أبي بكر الجوزجاني صاحب أبي سليمان الجوزجاني أنه قال : إذا قال أخ فسدت صلاته ; لأن له هجاء ويسمع فهو كالنفخ المسموع وبه تبين أن ما ذكره من المعنى غير سديد لما ذكرنا أن الله تعالى سماه قولا ، ولما ذكرنا أن الحروف المنظومة المسموعة كافية للفساد وإن لم يكن لها معنى مفهوما كما لو تكلم بمهمل كثرت حروفه . أبو يوسف
وأما قوله أن أحد الحرفين من الحروف الزوائد فنعم هو من جنس الحروف الزوائد لكنه من هذه الكلمة ليس هو بزائد وإلحاق ما هو من جنس الحروف الزوائد من كلمة ليس هو فيها زائدا بالزوائد محال ، وكذا قوله بامتناع [ ص: 235 ] التغير بالقصد والإرادة غير صحيح بدليل أن من قال : لا يبعث الله من يموت وأراد به قراءة القرآن يثاب عليه ولو أراد به الإنكار للبعث يكفر فدل أن ما ليس من كلام الناس في الوضع يجوز أن يصير من كلامهم بالقصد والإرادة .
ولو أن في صلاته أو بكى وارتفع بكاؤه فإن كان ذلك من ذكر الجنة أو النار لا تفسد الصلاة وإن كان من وجع أو مصيبة يفسدها ; لأن الأنين أو البكاء من ذكر الجنة والنار يكون لخوف عذاب الله وأليم عقابه ورجاء ثوابه فيكون عبادة خالصة ولهذا مدح الله تعالى خليله عليه الصلاة والسلام بالتأوه فقال { إن إبراهيم لأواه حليم } وقال في موضع آخر { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } ; لأنه كان كثير التأوه في الصلاة { } ، وإذا كان كذلك وكان لجوف رسول الله صلى الله عليه وسلم أزير كأزيز المرجل في الصلاة لا يكون من كلام الناس فلا يكون مفسدا ; ولأن التأوه والبكاء من ذكر الجنة والنار يكون بمنزلة التصريح بمسألة الجنة والتعوذ من النار وذلك غير مفسد كذا هذا ، وإذا كان ذلك من وجع أو مصيبة كان من كلام الناس وكلام الناس مفسد . فالصوت المنبعث عن مثل الأنين
وروي عن أنه قال : أبي يوسف لا تفسد صلاته وإن كان من وجع أو مصيبة ، إذا قال آه تفسد صلاته ; لأن الأول ليس من قبيل الكلام بل هو شبيه بالتنحنح والتنفس ، والثاني من قبيل الكلام والجواب ما ذكرنا . وإذا قال : أوه
ولو فسدت صلاته ; لأن تشميت العاطس من كلام الناس ; لما روينا من حديث عطس رجل فقال له رجل في الصلاة : يرحمك الله معاوية بن الحكم السلمي ; ولأنه خطاب للعاطس بمنزلة قوله : أطال الله بقاءك ، وكلام الناس مفسد بالنص وإن أخبر بخبر يسره فقال : الحمد لله أو أخبر بما يتعجب منه فقال : سبحان الله فإن لم يرد جواب المخبر لم تقطع صلاته ، وإن أراد به جوابه قطع عند أبي حنيفة وعند ومحمد لا يقطع وإن أراد به الجواب . أبي يوسف
وجه قوله أن الفساد لو فسدت إنما تفسد بالصيغة أو بالنية لا وجه للأول ; لأن الصيغة صيغة الأذكار ولا وجه للثاني ; لأن مجرد النية غير مفسد ، ولهما أن هذا اللفظ لما استعمل في محل الجواب وفهم منه ذلك صار من هذا الوجه من كلام الناس وإن لم يصر من حيث الصيغة ، ومثل هذا جائز كمن قال لرجل اسمه يحيى وبين يديه كتاب موضوع : يا يحيى خذ الكتاب بقوة وأراد به الخطاب بذلك لا قراءة القرآن أنه يعد متكلما لا قارئا ، وكذا إذا قيل للمصلي بأي موضع مررت فقال : بئر معطلة وقصر مشيد ، وأراد به جواب الخطاب لما ذكرنا كذا هذا ، وكذلك إذا أخبر بخبر يسوءه فاسترجع لذلك فإن لم يرد به جوابه لم يقطع صلاته وإن أراد به الجواب قطع ; لأن معنى الجواب في استرجاعه أعينوني فإني مصاب ولم يذكر خلاف في مسألة الاسترجاع في الأصل ، والأصح أنه على الاختلاف ومن سلم فرق بينهما فقال : الاسترجاع إظهار المصيبة وما شرعت الصلاة لأجله فأما التحميد فإظهار الشكر والصلاة شرعت لأجله ، أبي يوسف فإن كان في صلاة التطوع فهو حسن إذا كان وحده ; لما روي عن ولو مر المصلي بآية فيها ذكر الجنة فوقف عندها وسأل الله الجنة ، أو بآية فيها ذكر النار فوقف عندها وتعوذ بالله من النار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { حذيفة } . قرأ البقرة وآل عمران في صلاة الليل فما مر بآية فيها ذكر الجنة إلا وقف وسأل الله تعالى ، وما مر بآية فيها ذكر النار إلا وقف وتعوذ ، وما مر بآية فيها مثل إلا وقف وتفكر
وأما الإمام في الفرائض فيكره له ذلك ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله في المكتوبات وكذا الأئمة بعده إلى يومنا هذا فكان من المحدثات ; ولأنه يثقل على القوم وذلك مكروه ، ولكن لا تفسد صلاته ; لأنه يزيد في خشوعه والخشوع زينة الصلاة ، وكذا المأموم يستمع وينصت لقوله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } .