الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            وأما الشرط الثاني أعني قوله : أو يضيع ركن صلاة لكميد فمعناه أن شرط ركوب البحر للحج ; فأحرى لغيره أن يعلم الراكب أنه يوفي بصلاته في أوقاتها من غير أن يضيع شيئا من فروضها ، وهذا أيضا ليس خاصا بالبحر بل هو شرط في وجوب الحج مطلقا قال في المدخل : قال علماؤنا : إذا علم المكلف أنه تفوته صلاة واحدة إذا خرج إلى الحج فقد سقط الحج ، وقال في موضع آخر : إن الحج إذا لم يمكن إلا بإخراج الصلاة عن وقتها ، وشبهه فهو ساقط انتهى .

                                                                                                                            وقال البرزلي ناقلا عن المازري في أثناء جوابه عن سؤال ما نصه : إن كان يقع في ترك الصلوات حتى تخرج أوقاتها أو يأتي ببدل منها في وقتها ولم يوقعه في ذلك إلا السفر للحج فإن هذا السفر لا يجوز وقد سقط عنه فرض الحج انتهى .

                                                                                                                            ولعله سقط منه قبل قوله أو يأتي ببدل منها أو يترك بعض أركانها أو نحو ذلك والله أعلم .

                                                                                                                            ونقل التادلي عن المازري أن الاستطاعة هي الوصول إلى البيت من غير مشقة مع الأمن على النفس والمال والتمكن من إقامة الفرائض وترك التفريط وترك المناكير انتهى .

                                                                                                                            وقال ابن المنير في منسكه : اعلم أن تضييعه لصلاة واحدة سيئة عظيمة لا توفيها حسنات الحج بل الفاضل عليه ; لأن الصلاة أهم ، فإن كانت عادته الميد ولو عن صلاة واحدة بركوب البحر أو الدابة ترك الحج بل يحرم عليه الحج إذا لم يتوصل إليه إلا بترك الصلاة ثم قال : ولا يقصر في الاستبراء ويجب عليه من الاحتراز ما يجب في الحضر انتهى .

                                                                                                                            وقال إبراهيم بن هلال في منسكه : وبالجملة فلتكن الصلاة التي هي عماد الدين أهم أموره فليستعد لها ثيابا طاهرة يجدها إذا تنجس ثوبه ; لأن السفر مظنة إعواز الماء ، وهذا إذا كان واجدا وبعض القافلين لا يستعد إلا للذة لطيفة فيحمل لذائذ الأطعمة ويصلي بالتيمم وبالنجاسة ولتفريط الحاج في الصلاة وتأخيرهم إياها عن أوقاتها يقول أهل العلم فيهم : إنهم عصاة وقد أخذ من قول مالك : لا يجوز ركوب البحر للحج إذا أدى لتعطيل الصلاة أنه متى خيف تعطيلها في البر أنه لا يجوز السفر إلى الحج ، فقد سئل المازري عن حكم الحج في زمنه فأجاب بأنه متى وجد السبيل ولم يخف على نفسه وماله وأمن أن يفتن عن دينه وأن يقع في منكرات أو إسقاط واجبات من صلوات أو غيرها فإنه لا يسقط وجوبه قال : وإن كان يقع في ترك صلوات حتى يخرج أوقاتها ولم يوقعه في ذلك إلا السفر للحج فهذا السفر لا يجوز ويسقط عنه فرض الحج ، قال : وإن كان إنما يرى منكرات ويسمعها فهذا باب واسع انتهى .

                                                                                                                            ونكر المصنف ركنا ليشمل جميع أركان الصلاة وأدخل الكاف على كميد ليدخل الزحام والضيق وكثرة النجاسات وغير ذلك ، وهذا هو المشهور ومال الباجي إلى ركوب البحر وإن أدى إلى تضييع بعض أحكام الصلاة لما وقع الاتفاق عليه من ركوبه للجهاد وفرق بأن المراد من الجهاد أن تكون كلمة الله هي العليا والقيام بها أشرف من القيام بالصلاة ; لأن عدم القيام بالتوحيد كفر وعدم القيام بالصلاة ليس بكفر على المعروف وبضدها تتبين الأشياء والحج مع الصلاة بالعكس إذ هي أفضل وما ذكره في الجهاد [ ص: 514 ] فهو محمول على ما إذا تعين ، وأما إذا لم يتعين فبعيد أن يقال : بركوبه وإن أدى لتضييع بعض أحكام الصلاة انتهى .

                                                                                                                            ولم يبين الباجي ما الذي يستخف تضييعه وذكر اللخمي الخلاف فيما إذا كان لا يقدر على الصلاة إلا جالسا أو لا يستطيع أن يسجد إلا على ظهر أخيه ونصه والحج في البحر واجب على كل من في الجزائر ، مثل صقلية والأندلس ; لأنها بحار مارجة إذا كان الراكب يوفي بصلاته ولا يعطلها ولا ينقص فروضها فإن كان يعرض له ميد يمنعه من الصلاة لم يلزمه أن يأتي بفرض ليسقط فروضا ، ويختلف إذا كان يأتي بصلاته جالسا أو لا يجد موضعا لسجوده لضيق الموضع ; فقال مالك : إذا لم يستطع الركوع والسجود إلا على ظهر أخيه فلا يركبه أيركب حيث لا يصلي ، ويل لمن ترك الصلاة ، وقال أشهب فيمن لا يستطيع السجود إلا على ظهر أخيه يوم الجمعة : إنه يجزئه وهذا هو المعروف إذا كان يأتي بالبدل وإن كان دون الأول في الرتبة إن ذلك جائز كالذي يسافر حيث لا يجد الماء وينتقل للتيمم فخرج على قول أشهب في الجمعة بالإجزاء لزوم الحج مع ذلك وقاس منع ركوبه حيث يصلي جالسا على قول مالك في منع ركوبه حيث يسجد على ظهر أخيه فساوى بين ترك القيام والسجود على ظهر أخيه ، وقبل ابن عرفة كلامه ; فقال : وفي كونه مع الصلاة جالسا أو السجود على ظهر أخيه مسقطا أو لا سماع أشهب وتخريج اللخمي على قول أشهب في الجمعة بصحة جمعة من سجد على ظهر أخيه وإباحة سفر ينقل للتيمم انتهى .

                                                                                                                            فعزا لسماع أشهب : سقوط الحج بصلاته جالسا وليس ذلك في سماع أشهب نصا ولكنه تبع اللخمي في مساواته بين الصلاة جالسا والسجود على ظهر أخيه وتبع اللخمي على المساواة بينهما ابن فرحون في شرح ابن الحاجب وهو الذي يفهم من عموم كلام المصنف وكلام البرزلي وصرح بذلك ابن أبي جمرة في شرح الأحاديث التي اختصرها من صحيح البخاري فقال : إذا علم شخص من نفسه أنه يميد حتى يئول أمره إلى تعطيل الصلاة أو الخلل بشيء منها فلا يجوز له ركوبه وهو مذهب مالك إذا لم يمكنه القيام لأجل خوف الغرق أو الاطلاع على محرم ، فإن لم يدخل على هذه الأشياء وحصل له شيء منعه من القيام فهذا يجوز له أن يصلي قاعدا انتهى .

                                                                                                                            وقال الشيخ إبراهيم بن هلال في منسكه : وأما الذي يميد حتى يمنعه الصلاة ; فقال مالك : لا يركب حيث لا يصلي وإن كان يصلي جالسا فإن اللخمي خرج في ذلك قولين : الجواز والمنع ، وصحح الجواز انتهى .

                                                                                                                            وسماع أشهب الذي ذكره ابن عرفة هو كلام مالك الذي تقدم في كلام اللخمي فإنه في سماع أشهب من كتاب الصلاة وصرح ابن رشد في شرح هذه المسألة بأنه إذا ركبه وكان يسجد على ظهر أخيه أنه يعيد أبدا وانظر إذا أداه ذلك للصلاة جالسا ومقتضى كلام اللخمي السابق أنه مثل الذي يسجد على ظهر أخيه ، وهو قول مالك وهو مقتضى إطلاق المصنف . وكلام البرزلي وما قاله ابن أبي جمرة ولم يرتض صاحب الطراز مساواة اللخمي بين صلاته جالسا وسجوده على ظهر أخيه ونصه ويختلف إذا كان يتعذر عليه السجود لزحام الناس ، فذكر كلام مالك وقول أشهب في الجمعة والتخريج عليه ، ثم قال : وخرج بعض متأخري أصحابنا : إذا لم يقدر على القيام وقدر على الجلوس على هذا الاختلاف وليس بصحيح فإن السجود آكد ولهذا يسقط القيام في النقل وفي حق المسبوق بخلاف الركوع والسجود ، فالقيام يترخص بتركه في حال والسجود لا يترك إلا بتحقق الضرورة في كل حال ، نعم إن كان يتصرع فلا يتمسك جالسا فهو كتركه السجود ; لأن الشرع لم يرخص في ذلك إلا عند تحقق الضرورة بخلاف الجلوس انتهى .

                                                                                                                            فكأنه يقول : إذا قلنا بسقوط الحج لأجل السجود في قول مالك فلا يصح أن يقيس عليه السقوط [ ص: 515 ] بصلاته جالسا ونقل القرافي كلام سند باختصاره ونقله عنه التادلي وفهم منه عكس المقصود لأنه قال عقبه : وقد يقال وإن كان السجود آكد فقد ترخص فيه فلأن يترخص في القيام أولى لكونه دونه انتهى . والموجب لذلك الاختصار ، وقال ابن بشير إنه يختلف فيه على الخلاف في القياس على الرخص على ما سيأتي إن شاء الله في كلامه وقول اللخمي في كتاب الصلاة ويكره ركوب البحر إذا كان لا يقدر على الصلاة إلا جالسا انتهى . فعلى هذا لا يسقط فرض الحج بذلك لكنه خلاف ما مشى عليه المؤلف لكونه قال : ركن صلاة فأطلق في ذلك وإطلاقه موافق لما نسبه اللخمي في كتاب الحج لمالك وقبله ابن عرفة كما تقدم بيانه فتحصل من هذا أنه إذا كان ركوب البحر يؤدي إلى الإخلال بالسجود فإنه لا يركبه ويسقط عنه الحج وإن ركبه وصلى أعاد أبدا هذا هو المنصوص وإن أداه إلى الصلاة جالسا فمقتضى إطلاق المصنف وإطلاق البرزلي وما قاله ابن أبي جمرة : وقياس اللخمي وابن عرفة وابن فرحون ذلك على السجود على ظهر أخيه أنه كذلك . ومقتضى كلام اللخمي وكلام صاحب الطراز أن ذلك لا يسقط وجوب الحج ولا يعيد الصلاة وفي المدونة والعتبية : ومن لم يستطع القيام في السفينة يصلي جالسا وسيأتي كلاهما في التنبيه الأول والله أعلم

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية