يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون
21 - لما عدد الله فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين، وذكر صفاتهم وأحوالهم، وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها، ويشقيها، ويحظيها، ويرديها أقبل عليهم بالخطاب، وهو من الالتفات المذكور، فقال: يا أيها الناس قال علقمة: ما في القرآن " يا أيها الناس " فهو خطاب لأهل مكة، وما فيه " يا أيها الذين آمنوا " فهو خطاب لأهل المدينة. وهذا خطاب لمشركي مكة. و "يا": حرف وضع لنداء البعيد -وأي والهمزة للقريب- ثم استعمل في مناداة من غفل وسها، وإن قرب ودنا، تنزيلا له منزلة من بعد ونأى، فإذا نودي به القريب المقاطن فذاك للتوكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معتنى به جدا، وقول الداعي: يا رب وهو أقرب إليه من حبل الوريد- استقصار منه لنفسه، واستبعاد لها عن مظان الزلفى، هضما لنفسه، وإقرارا عليها بالتفريط مع فرط التهالك على استجابة دعوته. وأي: وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام، كما أن "ذو" و"الذي" وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس، ووصف المعارف بالجمل. وهو اسم مبهم يفتقر إلى ما يزيل إبهامه، فلا بد أن [ ص: 62 ] يردفه اسم جنس، أو ما يجري مجراه يتصف به، حتى يتضح المقصود بالنداء. فالذي يعمل فيه يا: أي. والتابع له صفته، نحو: يا زيد الظريف، إلا أن أيا لا يستقل بنفسه استقلال زيد، فلم ينفك عن الصفة، وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لتأكيد معنى النداء، وللعوض عما يستحقه، أي: من الإضافة، وكثر النداء في القرآن على هذه الطريقة; لأن ما نادى الله به عباده من أوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، أمور عظام، وخطوب جسام، يجب عليهم أن يتيقظوا لها، ويميلوا بقلوبهم إليها، وهم عنها غافلون، فاقتضت أن ينادوا بالآكد الأبلغ اعبدوا ربكم وحدوه. قال -رضي الله عنهما-: كل عبادة في القرآن فهي توحيد ابن عباس الذي خلقكم صفة موضحة مميزة; لأنهم كانوا يسمون الآلهة أربابا. والخلق: إيجاد المعدوم على تقدير واستواء. وعندالمعتزلة: إيجاد الشيء على تقدير واستواء. وهذا بناء على أن المعدوم شيء عندهم; لأن الشيء ما صح أن يعلم ويخبر عنه عندهم، وعندنا هو اسم للموجود "خلقكم" بالإدغام، أبو عمرو والذين من قبلكم احتج عليهم بأنه خالقهم وخالق من قبلهم; لأنهم كانوا مقرين بذلك، فقيل لهم: إن كنتم مقرين بأنه خالقكم فاعبدوه، ولا تعبدوا الأصنام لعلكم تتقون أي: اعبدوا على رجاء أن تتقوا فتنجوا بسببه من العذاب. ولعل للترجي والإطماع، ولكنه إطماع من كريم، فيجري مجرى وعده المحتوم وفاؤه، وبه قال وقال سيبويه، قطرب: هو بمعنى كي، أي: لكي تتقوا.