قوله عز وجل:
إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير
أخبر الله تعالى أن مداراة هؤلاء الكفار غير نافعة في الدنيا وأنها ضارة في الآخرة، [ ص: 279 ] ليبين فساد رأي مصانعهم، فقال تعالى: "إن يثقفوكم" أي: إن يتمكنوا منكم وتحصلوا في ثقافهم ظهرت العداوة وانبسطت أيديهم بضرركم وقتلكم، وألسنتهم بسبكم، وهذا هو السوء، وأشد من هذا كله أنهم إنما يقنعهم منكم أن تكفروا، وهذا هو ودهم.
ثم أخبر تعالى أن هذه الأرحام التي رغبتم في وصلها ليست بنافعة يوم القيامة، فالعامل في "يوم" قوله تعالى: "تنفعكم"، وقال بعض النحاة في كتاب : العامل فيه "يفصل" وهو مما بعده لا مما قبله. الزهراوي
وقرأ ابن كثر، ، ونافع ، والعامة: "يفصل" بضم الياء وسكون الفاء وتخفيف الصاد مفتوحة، وقرأ وأبو عمرو ، ابن عامر ، والأعرج : "يفصل" بضم الياء وفتح الفاء وشد الصاد منصوبة، واختلف -على هاتين القراءتين- في إعراب قوله تعالى: "بينكم" فقيل: نصب على الظرف، وقيل: رفع على ما لم يسم فاعله إلا أن لفظه بقي منصوبا لأنه كذلك كثر استعماله، وقرأ وعيسى ، عاصم : "يفصل" بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد خفيفة، وقرأ والأعمش ، حمزة ، والكسائي : "يفصل" بضم الياء وفتح الفاء وشد الصاد المكسورة، وإسناد الفعل في هاتين القراءتين إلى الله تعالى، وقرأ وابن وثاب ، النخعي : "نفصل" بنون العظمة مرفوعة وفتح الفاء وشد الصاد وفي قوله تعالى: وطلحة بن مصرف والله بما تعملون بصير وعيد وتحذير.
وقرأ جمهور السبعة: "إسوة" بكسر الهمزة، وقرأ وحده: "أسوة" بضمها، وهما لغتان، والمعنى: قدوة وإمام، ومثال، و"إبراهيم" صلى الله عليه وسلم هو عاصم خليل الرحمن عز وجل واختلف الناس في "الذين معه"، فقال قوم من المتأولين: أراد من آمن به من الناس، وقال وغيره: أراد الأنبياء الذين كانوا في عصره عليه السلام وقريبا من عصره، وهذا القول أرجح لأنه لم يرو أن الطبري إبراهيم عليه السلام كان له أتباع مؤمنون في مكافحته نمروذ، وفي أنه عليه الصلاة والسلام قال البخاري لسارة حين رحل بها إلى الشام مهاجرا من بلد النمروذ: ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك، وهذه الأسوة مفيدة في التبري من الإشراك وهو مطرد في كل ملة، وفي نبينا صلى الله عليه و سلم أسوة حسنة على الإطلاق لأنها في العقائد وفي أحكام الشرع كلها.
وقرأ جمهور الناس "برءاء" على وزن فعلاء، والهمزة الأولى لام الفعل، وقرأ : "براء" على وزن فعال، بكسر الباء ككريم وكرام، وقرأ عيسى الثقفي [ ص: 280 ] "براء" على وزن فعال بضم الفاء كتؤام، وقد رويت عن يزيد بن القعقاع: قراءة، قال عيسى : زعموا أنه أبو حاتم "ويجوز": "براء" على المصدر بفتح الباء، يوصف به الجمع والإفراد. عيسى الهمداني-،
وقوله تعالى: "كفرنا بكم" معناه: كذبناكم في أقوالكم ولم نؤمن بشيء منها، ونظير هذا قوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله عز وجل: ولم يلحق العلامة في "بدا" لأن تأنيث العداوة والبغضاء غير حقيقي. "فهو مؤمن بي كافر بالكوكب"،
ثم استثنى تعالى استغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه، فذكر أنه كان عن موعدة، وقد فسرنا ذلك في موضعه، وهذا استثناء ليس من الأول، والمعنى عند ، مجاهد ، وقتادة ، وغيرهم أن الأسوة لكم في هذا الوجه لا في هذا الآخر لأنه كان في علة ليست في نازلتكم، ويحتمل أن يكون استثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت، أي: لم تبق صلة إلا كذا. وعطاء الخراساني
وقوله تعالى: ربنا عليك توكلنا الآية... حكاية عن قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام والذين معه إنه هكذا كان.