الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون

قال بعض المفسرين: "من قيام" معناه: ما استطاعوا أن يقوموا من مصارعهم، وقال قتادة وغيره: معناه: من قيام بالأمر ودفعه، كما تقول: فلان له بكذا وكذا قيام، أي: استصلاح وانتهاض، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وعاصم : "وقوم نوح" بالنصب، وهو عطف إما على الضمير في قوله تعالى: "فأخذتهم"; إذ هو بمنزلة "أهلكناهم"، وإما على الضمير في قوله تعالى: "فنبذناهم"، وقرأ أبو عمرو -فيما روى عنه عبد الوارث -: "وقوم نوح" بالرفع، وذلك على الابتداء والخبر وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : "وقوم نوح" بالخفض عطفا على ما تقدم من قوله تعالى: "وفي ثمود"، وقد روي النصب عن أبي عمرو .

وقوله تعالى: "والسماء" نصب بإضمار فعل تقديره: وبنينا السماء بنيناها، [ ص: 80 ] و"الأيد": القوة، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، ووقعت في المصحف بياءين، وذلك على تخفيف الهمز، وفي هذا نظر. وقوله تعالى: [لموسعون] يحتمل أن يريد: إنا نوسع الأشياء قوة وقدرة، كما قال الله تعالى: و على الموسع قدره . أي: الذي يوسع أهله إنفاقا، ويحتمل أن يريد: لموسعون في بناء السماء، أي جعلناها واسعة، وهذا تأويل ابن زيد ، وقال الحسن: أوسع الرزق بمطر السماء، و "الماهد": المهيئ الموطئ للموضع الذي يتمهد ويفترش.

وقوله تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين أي: مصطحبين متلازمين، فقال مجاهد : معناه أن هذه إشارة إلى المتضادات والمتقابلات من الأشياء كالليل والنهار، والشقوة والسعادة، والهدى والضلالة، و السماء والأرض، والسواد والبياض، والصحة والمرض، والكفر والإيمان، ونحو هذا، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة التي توجد الضدين بخلاف ما يفعل بطبعه فعلا واحدا كالتسخين والتبريد، وقال ابن زيد وغيره: هي إشارة إلى الأنثى والذكر من كل حيوان، والترجي الذي في قوله تعالى: "لعلكم" هو بحسب خلق البشر وعرفها، وقرأ الجمهور: "تذكرون" بتشديد الذال والإدغام، وقرأ أبي بن كعب "تتذكرون" بتاءين وخفة الذال.

وقوله تعالى: ففروا إلى الله أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الله تعالى، وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار لينبه على أن وراء الناس عقابا وعذابا وأمرا حقه أن يفر منه، فجمعت لفظة "فروا" بين التحذير والاستدعاء، وينظر إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك..." الحديث. قال الحسن بن الفضل: من فر إلى غير الله تعالى لم يمتنع من الله عز وجل.

وقوله تعالى: ولا تجعلوا مع الله إلها آخر نهي عن عبادة الأصنام والشياطين وكل [ ص: 81 ] مدعو من دون الله تعالى، وفائدة تكرار قوله تعالى: ( إني لكم منه نذير مبين ) الإبلاغ وهز النفس وتحكيم التحذير، وإعادة الألفاظ بعينها في هذه المعاني بليغة بقرينة شدة الصوت.

وقوله تعالى: "كذلك" تقديره: سيرة الأمم كذلك، أو الأمر في القديم كذلك، وقوله تعالى: إلا قالوا ساحر أو مجنون معناه إلا قال بعض هذا وبعض هذا وبعض هذا وبعض الجميع، ألا ترى أن قوم لوط عليه السلام لم يقولوا قط: ساحر، وإنما قالوا: به جنة، فلما اختلفت الفرق جعل الخبر عن ذلك بإدخال "أو" بين الصيغتين، وليس المعنى أن كل أمة قالت عن نبيها: إنه ساحر أو هو مجنون، فليست هذه كالمتقدمة في فرعون، بل هذه كأنه تعالى قال: إلا قالوا: هو ساحر، أو قالو وهو مجنون.

التالي السابق


الخدمات العلمية