وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم وإن فاتكم شيء من [ ص: 284 ] أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون
أمر الله تعالى أن يؤتى الكفار مهور نسائهم اللاتي هاجرن مؤمنات، ورفع الجناح في أن يتزوجن بعد إتاء أجورهن، وأمر المسلمين بفراق الكافرات وأن لا يمسكوا بعصمهن، فقيل: الآيات في عابدات الأوثان ومن لا يجوز نكاحها، ابتداء، وقيل: هي عامة نسخ منها نساء أهل الكتاب.
و"العصم" جمع عصمة، وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية، وكذلك العصمة في كل شيء هي السبب الذي يعتصم به ويعتمد عليه، وقرأ جمهور السبعة والناس: "تمسكوا" بضم التاء وكسر السين وتخفيفها، من "أمسك"، وقرأ وحده، أبو عمرو ، وابن جبير ، ومجاهد ، والأعرج ، بخلاف: "ولا تمسكوا"، من "مسك" بالشد في السين، وقرأ والحسن الحسن، ، وابن أبي ليلى -في رواية وابن عامر عبد الحميد-: "ولا تمسكوا" بفتح التاء والميم وفتح السين وشدها، وقرأ "وتمسكوا" بفتح التاء وسكون الميم وكسر السين مخففة، ورأيت الحسن: أنه قال: سمعت الفقيه لأبي علي الفارسي أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى: ولا تمسكوا بعصم الكوافر إنه في الرجال والنساء، فقلت له: النحويون لا يرون هذا إلا في النساء; لأن "كوافر"، جمع "كافرة"، فقال: وايش يمنع من هذا؟ أليس الناس يقولون: طائفة كافرة وقرية كافرة؟ فبهت، وقلت: هذا تأييد.
وأمر تعالى أن يسأل أيضا الكافرون أن يدفعوا الصدقات التي أعطاها المؤمنون لمن فر من أزواجهم إلى الكفار، وقرر الحكم بذلك على الجميع، فروي عن أن ابن شهاب قريشا قالت: نحن لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقا، فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى "وإن فاتكم" الآية، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يدفعوا إلى من فرت زوجته ففاتت بنفسها إلى الكفار صداقه الذي أنفق، قال [ ص: 285 ] رضي الله عنهما -في كتاب ابن عباس -: الثعلبي خمس نسوة من نساء المهاجرين رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين: أم الحكم بنت أبي سفيان ، وكانت تحت عياض بن شداد، وفاطمة بنت أبي أمية أخت أم سلمة ، كانت تحت رضي الله عنه، عمر بن الخطاب وعبدة بنت عبد العزيز، كانت تحت هشام بن العاص. وأم كلثوم بنت جرول، كانت تحت رضي الله عنه، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة. عمر بن الخطاب
واختلف الناس، في أي مال يدفع إليه الصداق؟ فقال : يدفع إليه من الصدقات التي كانت تدفع إلى الكفار بسبب من هاجر من أزواجهم، وأراد الله تعالى دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه حسب ما ذكرناه، وهذا قول صحيح يقتضيه قوله تعالى: "فعاقبتم"، وسنبين ذلك عند تفسير اللفظة إن شاء الله تعالى، وقال محمد بن شهاب الزهري ، مجاهد : يدفع إليه من غنائم المغازي، وقال هؤلاء: "المعاقبة" هي الغزو والمغنم، وتأولوا اللفظة بهذا المعنى، وقال وقتادة أيضا: يدفع إليه من أي وجوه الفيء أمكن. الزهراوي
و"المعاقبة" في هذه الآية ليست بمعنى مجازاة السوء بسوء، ولكنها بمعنى: فصرتم منهم إلى الحال التي صاروا إليها منكم، وذلك بأن يفوت إليكم شيء من أزواجكم، وهكذا هو التعقيب على الجمل والدواب، أن يركب هذا عقبة وهذا عقبة، وقرأ رضي الله عنه: "وإن فاتكم أحد من أزواجكم"، ويقال عاقب الرجل صاحبه في كذا، أي: كل واحد منهما بعقب فعل الآخر، ويقال: أعقب الرجل، ومنه قول الشاعر : ابن مسعود
وحاردت النكد الجلاد ولم يكن لعقبة قدر المستعيرين معقب
[ ص: 286 ] ويقال: عقب -بشد القاف- أي: أصاب عقبى، والتعقيب: غزو إثر غزو، ويقال: عقب بتخفيفها-، ويقال: عقب بكسرها-، كل ذلك بمعنى يقرب بعضه من بعض، ويجمع ذلك قربى. قرأ جمهور الناس: "عاقبتم" بالتشديد في القاف، وقرأ أيضا الأعرج وأبو حيوة أيضا: عقبتم"بفتح" القاف خفيفة، وقرأ والزهراوي ، النخعي أيضا: "عقبتم" بكسر القاف، وكلها بمعنى: غنمتم، وروي عن والزهري : "أعقبتم" بألف مقطوعة قبل العين، وهذه الآية كلها قد ارتفع حكمها. ثم ندب تعالى إلى التقوى وأوجبها، وذكر العلة التي بها تجب التقوى وهي الإيمان بالله تعالى والتصديق بوحدانيته وصفاته وعقابه وإنعامه. مجاهد