[ ص: 326 ] بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الطلاق
وهي مدنية بإجماع أهل التفسير.
قوله عز وجل:
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا
على الجملة مكروه، لأنه تبديد شمل في الإسلام، وروى الطلاق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبو موسى الأشعري وروى "لا تطلقوا النساء إلا من ريبة، فإن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات"، أنه عليه الصلاة والسلام قال: أنس "ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق" . واختلف في البداية بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم قوله تعالى بعد ذلك "طلقتم"، فقال بعض النحويين -حكاه -:ذلك خروج من مخاطبة أفراد إلى مخاطبة جماعة، وهذا موجود، وقال آخرون منهم: إن في نداء النبي صلى الله عليه وسلم أريدت أمته معه، فلذلك قال تعالى: "طلقتم"، وقال آخرون منهم: إن المعنى: يا أيها النبي قل لهم إذا طلقتم، وقال آخرون: إنه من حيث يقول الرجل العظيم: "فعلنا وصنعنا"، خوطب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه [ ص: 327 ] بـ "طلقتم" إظهارا لتعظيمه، وهذا على نحو قوله تعالى في الزهراوي عبد الله بن أبي : هم الذين يقولون إذا كان قوله مما يقوله جماعة، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم في هذه ما يخاطب به فهو خطاب لجماعة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والذي يظهر لي في هذا أنهما خطابان مفترقان، خوطب النبي صلى الله عليه وسلم على معنى تنبيه لسماع القول وتلقي الأمر، ثم قيل له: إذا طلقتم ، أي: أنت وأمتك، فقوله تعالى: "إذا طلقتم" ابتداء كلام كما لو ابتدأ السورة به، وطلاق النساء حل عصمتهن، وصورة ذلك وتنويعه مما لا يختص بالتفسير.
وقوله تعالى: فطلقوهن لعدتهن ، أي: لاستقبالها وقوامها وتقريبها عليهن، وقرأ ، عثمان ، وابن عباس ، وأبي بن كعب ، وجابر بن عبد الله ، ومجاهد ، وعلي بن الحسين ، وزيد بن علي وجعفر بن محمد رضي الله عنهما: "لقبل عدتهن"، أي: لاستقبالها، وروي عن بعضهم وعن القراءتين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ ابن عمر رضي الله عنه: "لقبل طهرهن". ابن مسعود
ومعنى هذه الآية أن هذا على مذهب لا يطلق أحد امرأته إلا في طهر لم يمسها فيه، رحمه الله وغيره ممن قال: إن "الأقراء": الأطهار، فيطلق عندهم المطلق في طهر لم يمس فيه، وتعتد به المرأة ثم تحيض حيضتين تعتد بالطهر الذي بينهما، ثم تقيم في الطهر الثالث معتدة به، فإذا رأت أول لحيضة الثالثة حلت، ومن قال: بأن "الأقراء": الحيض -وهم العراقيون- قال: "لعدتهن"، معناه أن تطلق طاهرا، فتستقبل ثلاث حيض كوامل، فإذا رأت الطهر بعد الثالثة حلت، ويخف عند هؤلاء مس في طهر الطلاق أو لم يمس، وكذلك مالك يقول: "إن مالك مضى الطلاق"، ولا يجوز [ ص: 328 ] طلق في طهر قد مس فيه لأنها تطول العدة عليها، وقيل: بل تعتد، ولو علل بالتطويل لا ينبغي أن يجوز ولو رضيته، والأصل في ذلك حديث طلاق الحائض رضي الله عنهما، قال: ابن عمر : "مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلقها إن شاء، فتلك العدة التي أمر الله تعالى بها أن يطلق لها النساء"، لعمر وروى طلقت امرأتي وهي حائض، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنه عليه الصلاة والسلام قال: حذيفة ثم أمر تعالى بإحصاء العدة لما يلحق ذلك من أحكام الرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك. "طلقوا المرأة في قبل طهرها".
ثم أخبر تعالى بأنهن أحق بسكنى بيوتهن التي طلقن فيها، فنهى عن إخراجهن وعن خروجهن، وسنة ذلك ولا تغيب عنه نهارا إلا في ضرورة وما لا خطب له من جائز التصرف، وذلك لحفظ النسب والتحرز بالنساء، فإن كان البيت ملكا للزوج أو بكراء منه فهذا حكمه، فإن كان لها فعليه الكراء، فإن كان قد أمتعته مدة الزوجية ففي لزوم خروج العدة له قولان في المذهب: اللزم رعاية لانفصال مكارمة النكاح، والسقوط من أجل أن العدة من سبب النكاح. ألا تبيت المرأة المطلقة "بعيدة" عن بيتها
[ ص: 329 ] واختلف الناس في معنى قوله تعالى: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فقال ، قتادة ، والحسن : ذلك الزنا، فيخرجن للحد، وهذا قول ومجاهد ، الشعبي ، وزيد بن أسلم ، وحماد . وقال والليث رضي الله عنهما: ذلك البذاء على الأحماء، فتخرج ويسقط حقها من السكنى، وتلزم الإقامة في مسكن تتخذه حفظا للنسب، وفي مصحف ابن عباس رضي الله عنه: "إلا أن يفحشن عليكم" ، وقال أبي بن كعب رضي الله عنهما أيضا: الفاحشة جميع المعاصي، فمتى سرقت أو زنت أو أربت في تجارة وغير ذلك فقد سقط حقها في السكنى، وقال ابن عباس ابن عمر : الفاحشة الخروج عن البيت خروج انتقال، فمتى فعلت ذلك فقد سقط حقها في السكنى، وقال والسدي أيضا: المعنى: أن يأتين بفاحشة في نشوز عن الزوج فيطلق بسبب ذلك فلا يكون عليه سكنى، وقال بعض الناس: الفاحشة متى وردت معرفة فهي الزنا، ومتى جاءت منكرة فهي المعاصي، فمرة يراد بها سوء عشرة الزوج ومرة غير ذلك. قتادة
وقرأ : "مبينة" بفتح الياء المشددة، تقول: بان الأمر وبينته أنا على تضعيف التعدية، وقرأ الجمهور: بكسرها، تقول بان الأمر وبين بمعنى واحد، إلا أن التضعيف للمبالغة، ومن ذلك قولهم: قد بين الصبح لذي عينين. عاصم
وقوله تعالى: وتلك حدود الله إشارة إلى جميع أوامره في هذه الآية، وقوله سبحانه: لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ، قال وغيره: يريد به الرجعة، أي: أحصوا العدة، وامتثلوا هذه الأوامر المتفقة لنسائكم، الحافظة لأنسابكم، وطلقوا على السنة، تجدوا المخلص إن ندمتم، فإنكم لا تدرن لعل الرجعة تكون بعد، والإحداث هنا بين التوجه، عبارة عما يوجد من التراجع، وجوز قوم أن يكون المعنى: أمرا من النسخ، وفي ذلك بعد. قتادة
وقوله تعالى: فإذا بلغن أجلهن يريد به آخر القرء، و "الإمساك بالمعروف" هو و "المفارقة بالمعروف" هو أداء المهر والمتعة ودفع جميع الحقوق والوفاء بالشروط وغير ذلك حسب نازلة نازلة، وقوله تعالى: حسن العشرة في الإنفاق وغير ذلك، وأشهدوا ذوي عدل منكم يريد: على الرجعة، وذلك شرط في [ ص: 330 ] وللمرأة منع الزوج من نفسها حتى يشهد، وقال صحة الرجعة، رضي الله عنهما: المراد: على الرجعة وعلى الطلاق; لأن الإشهاد يرفع من النوازل إشكالات كثيرة، وتقييد تاريخ الإشهاد من الإشهاد، وقال ابن عباس : العدل من لم تظهر منه ريبة، وهذا قول الفقهاء، والعدل حقيقة الذي لا يخاف إلا الله تعالى، وقوله سبحانه: النخعي وأقيموا الشهادة لله أمر للشهود، وقوله تعالى: ذلكم يوعظ به إشارة إلى إقامة الشهادة، وذلك أن جميع فصول الأحكام والأمور فإنما تدور على إقامة الشهادة.
قوله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، قال رضي الله عنه، وكثير من المتأولين: هو في معنى الطلاق، أي: ومن لا يتعدى في طلاق السنة إلى طلاق الثلاث وغير ذلك يجعل الله له مخرجا إن ندم بالرجعة، المباحة ويرزقه ما يطعم أهله، ويوسع عليه، ومن لا يتق الله فربما طلق وبت وندم فلم يكن له مخرج، وزال عليه رزق زوجته، وقد فسر علي بن أبي طالب رضي الله عنهما نحو هذا، فقال للمطلق ثلاثا: أنت لم تتق الله تعالى، فبانت منك امرأتك ولا أرى لك مخرجا، وقال ابن عباس أيضا: معنى "يجعل له مخرجا "يخلصه من كرب الدنيا والآخرة، واختلف في ألفاظ رواية هذه القصة قال ابن عباس رضي الله عنهما، لكن هذا هو المعنى. ابن عباس
وقال بعض رواة الآثار: نزلت هذه الآية في ، وذلك أنه أسر ولده، وقدر عليه، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بالتقوى، فقيل: لم يلبث أن تفلت ولده، وأخذ قطيع غنم للقوم الذين أسروه، وجاء أباه، فسأل عوف بن مالك الأشجعي عوف رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتطيب له تلك الغنم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، ونزلت الآية في ذلك.
وقوله تعالى: ومن يتوكل على الله فهو حسبه الآية كلها لجميع الناس، و"الحسب": الكافي المرضي، وقال رضي الله عنه: هذه أكثر الآيات حضا على التفويض، وروي أن رجلا قال ابن مسعود رضي الله عنه: ولني مما ولاك الله تعالى، فقال له لعمر : أتقرأ القرآن؟ قال: لا، قال عمر : فإنى لا أولي من لا يقرأ القرآن، فتعلم الرجل رجاء الولاية، فلما حفظ كثيرا من القرآن تخلف عن عمر ، ثم لقيه يوما فقال له عمر رضي الله عنه: ما أبطأ بك؟ قال: تعلمت القرآن فأغناني الله عن عمر وعن بابه، ثم قرأ هذه الآيات من هذه السورة. عمر
[ ص: 331 ] وقوله تعالى: إن الله بالغ أمره بيان أي: لا بد من نفوذ أمر الله تعالى توكلت أيها المرء أم لم تتوكل قاله وحض على التوكل، ، فإن توكلت كفاك وتعجلت الراحة والبركة، وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك، وأمره عز وجل في الوجهين نافذ. مسروق
وقرأ داود بن هند -ورويت عن - "بالغ أمره" برفع الأمر، وحذف مفعول تقديره: بالغ أمره ما شاء، وقرأ جمهور السبعة، والناس: "بالغ أمره" بنصب الأمر، وقرأ أبي عمرو حفص عن والمفضل : "بالغ أمره"" على الإضافة وترك التنوين في: "بالغ" ، ورويت عن عاصم ، أبي عمرو ، وهي قراءة والأعمش . وقرأ جمهور الناس: "قدرا" بسكون الدال، وقرأ بعض القراء: "قدرا" فتح الدال وهذا كله حض على التوكل. طلحة بن مصرف