[ ص: 338 ] بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة التحريم
وهي مدنية بإجماع من أهل العلم بلا خلاف.
قوله عز وجل:
يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير
روي في الحديث عن زيد بن أسلم وغيرهما ما معناه والشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أهدى إليه المقوقس مارية القبطية اتخذها سرية، فلما كان في بعض الأيام وهو يوم رضي الله عنهما، وقيل: بل كان في يوم حفصة بنت عمر رضي الله عنها، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت عائشة فوجدها قد مرت إلى زيارة أبيها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في جاريته فقال معها، فجاءت حفصة فوجدتهما، فأقامت خارج البيت حتى أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة مارية وذهبت، فدخلت غيرى متغيرة، فقالت: يا رسول الله، أما كان في نسائك أهون عليك مني؟ أفي بيتي غيرى وعلى فراشي؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مترضيا لها: أيرضيك أن أحرمها؟ قالت: نعم، فقال: إني قد حرمتها، قال حفصة رضي الله عنهما: وقال مع ذلك: والله لا أطؤها أبدا، ثم قال: لا تخبري بهذا أحدا، فمن قال: إن ذلك كان في يوم ابن عباس قال: استكتمها خوفا من غضب عائشة ، وحسن عشرة لها، ومن قال: بل كان في يوم عائشة قال: استكتمتها [ ص: 339 ] لنفس الأمر، ثم إن حفصة قرعت الجدار الذي بينها وبين حفصة رضي الله عنهما وأخبرتها لتبشرها بالأمر، ولم تر في إفشائه إليها حرجا، واستكتمتها، فأوحى الله بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ونزلت الآية. عائشة
وروي عن أن هذا نزل بسبب شريك التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عكرمة نحوه عن النقاش رضي الله عنهما. وروى ابن عباس عبيد بن عمر عن رضي الله عنها أن هذا التحريم المذكور في الآية إنما هو بسبب شراب العسل الذي شربه عند عائشة ، زينب بنت جحش عائشة وحفصة على أن تقول له من دنا منها: أكلت مغافير، والمغافير صمغ العرفط، وهو حلو ثقيل الريح، ففعلن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ولكني شربت عسلا، فقلن له: جرست نحله العرفط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أشربه أبدا، وكان يكره أن توجد منه رائحة ثقيلة، فدخل -بعد ذلك- على وسودة رضي الله عنها فقالت له: ألا نسقيك من ذلك العسل؟ فقال: لا حاجة لي به. قالت زينب رضي الله عنها: تقول عائشة حين بلغها امتناعه: والله لقد حرمناه، قلت لها: اسكتي. سودة فتمالأت
[ ص: 340 ] والقول الأول - إن الآية نزلت بسبب مارية - أصح وأوضح، وعليه تفقه الناس في الآية، ومتى حرم الرجل مالا أو جارية دون أن يعتق أو يشترط عتقا أو نحو ذلك فليس تحريمه بشيء، واختلف العلماء فقال إذا حرم زوجته بأن يقول: "أنت علي حرام" أو: "الحلال علي حرام"، ولا يستثني زوجته، : هي ثلاث في المدخول بها، وينوي في غير المدخول بها، فهو ما أراد من واحدة أو اثنين أو ثلاث، وقال مالك هي ثلاث في الوجهين، ولا ينوي في شيء، وقال عبد الملك بن الماجشون: أبو المصعب وغيره -وروى ابن خويز منداد عن -: أنها واحدة بائنة في المدخول بها، وروي عن مالك عبد العزيز بن الماجشون أنه قال: يحملها على واحدة رجعية، وقال غير واحد من أهل العلم: التحريم لا شيء، وإنما عاتب الله رسوله صلى الله عليه فيه ودله على تحلة اليمين المبينة في المائدة لقوله: "قد حرمتها ووالله لا أطؤها أبدا" ، وقال : ما أبالي أحرمتها أو قصعة من ثريد، وكذلك قال مسروق : "ليس التحريم بشيء، قال تعالى: الشعبي ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام ، وقال تعالى: لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ، وقال ومحرم زوجته قد سمي حراما ما جعله الله حلالا، وحرم ما أحل الله له، ، أبو بكر الصديق ، وعمر الفاروق ، وابن مسعود وابن عباس ، وعائشة ، وابن المسيب ، وعطاء ، وطاوس ، وسليمان بن يسار ، وابن جبير . وقتادة وأبو ثور ، والأوزاعي ، وجماعة: التحريم يلزم فيه تكفير يمين بالله تعالى، والتحلة إنما هي من أجل جهة التحريم، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لا أطؤها"، وقال والحسن : "التحريم ظهار"، وقال أبو قلابة ، أبو حنيفة ، والكوفيون: "هو ما أراد من الطلاق، فإن لم يرد بذلك طلاقا فهو لا شيء"، وقال آخرون: "هو ما أراد من الطلاق، فإن لم يرد طلاقا فهو يمين. وسفيان
ودعا الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم باسم النبوة الذي هو دال على شرف منزلته وعلى فضيلته التي خصه بها دون البشر وقدره، . كالمعاتب على سبب تحريمه على نفسه ما أحل الله تعالى له
[ ص: 341 ] وقوله تعالى: تبتغي مرضات أزواجك جملة في موضع الحال من الضمير الذي في "تحرم"، و "المرضاة" مصدر كالرضى، ثم غفر له تعالى ما عاتبه فيه ورحمه.
وقوله تعالى: قد فرض الله أي: بين وأثبت، وقال قوم من أهل العلم: هذه إشارة إلى تكفير التحريم، وقال آخرون: هي إشارة إلى تكفير اليمين المقترنة بالتحريم. و"التحلة" مصدر، وزنها "تفعلة"، وأدغم لاجتماع المثلين، وأحال في هذه الآية على الآية التي فسر فيها الإطعام في كفارة اليمين بالله تعالى، و"المولى": الموالي الناصر العاضد.
وقوله تعالى: وإذ أسر النبي الآية معناه: اذكر يا محمد ذلك على وجه التأنيب والعتب لهن، وقال الجمهور: "الحديث" هو قوله صلى الله عليه وسلم في أمر مارية، وقال آخرون: إنما هو قوله عليه الصلاة والسلام: ، و"بعض أزواجه" هي إنما شربت عسلا رضي الله عنها، و"نبأت" معناه: أخبرت، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ حفصة : "أنبأت" وكان إخبارها طلحة رضي الله عنها، وهذا ونحوه هو التظاهر الذي عوتبتا فيه، وقال لعائشة : الحديث الذي أسر إلى ميمون بن مهران أنه قال لها: وأبشري بأن حفصة أبا بكر يملكان أمر أمتي بعدي خلافة، وتعدت "نبأ" في هذه الآية مرة إلى مفعولين ومرة إلى واحد، لأن ذلك يجوز في أنبأ ونبأ إذا كان دخولهما على غير الابتداء والخبر، فمتى دخلت على الجملة تعدت إلى ثلاثة مفاعيل، ولا يجوز الاقتصار، وقوله سبحانه: وعمر وأظهره الله عليه أي: أطلعه.
وقرأ وحده، الكسائي ، وأبو عبد الرحمن ، وطلحة والحسن : "عرف" بتخفيف الراء، وقرأ الباقون وجمهور الناس: "عرف" بشدها، والمعنى في اللفظة مع التخفيف: جازى بالعتب واللوم، كما تقول لإنسان يؤذيك: قد عرفت لك هذا، ولأعرفن لك هذا، بمعنى: لأجازينك عليه، ونحوه في المعنى قوله تعالى: وقتادة أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم، فأعرض عنهم فعلم الله زعيم بمجازاتهم، وكذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى مع الشد في الراء: أعلم به وأبت عليه، وقوله تعالى: "وأعرض عن بعض" أي: تكرما وحياء وحسن عشرة، قال ما استقصى كريم قط، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حينئذ الحسن: رضي الله عنها، ثم إن الله تعالى [ ص: 342 ] أمره بمراجعتها، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاتبها ولم يطلقها، فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر وأنها أفشته إلى حفصة ظنت أن عائشة فضحتها، فقالت: "من أنبأك هذا"؟ على جهة التثبت، فلما أخبرها أن الله تعالى أخبره سكتت وسلمت. عائشة