مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين سنسمه على الخرطوم إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم
قال كثير من المفسرين: الخير هنا المال، فوصفه بالشح، وقال آخرون: بل هو على عمومه في المال والأفعال الصالحة، ومن يمنع إيمانه وطاعته فقد منع الخير، و"المعتدي": المتجاوز لحدود الأشياء، و"الأثيم" فعيل من الإثم بمعنى آثم، وذلك من حيث أعماله قبيحة تكسب الإثم.
و"العتل": القوي البنية، الغليظ الأعضاء، المصحح، القاسي القلب، البعيد الفهم، الأكول الشروب الذي هو بالليل جيفة وبالنهار حمار، وكل ما عبر به المفسرون عنه من خلال النقص فعن هذه التي ذكرت تصدر، وقد ذكر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر "العتل" بنحو هذا، وهذه الصفات كثيرة التلازم، والعتل: الدفع بشدة، ومنه العتلة، وقوله تعالى: النقاش بعد ذلك معناه: بعد ما وصفناه به، فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصف لا في حصول تلك الصفات في الموصوف، وإلا فكونه عتلا هو قبل كونه صاحب خير يمنعه.
و"الزنيم" في كلام العرب: الملصق في القوم وليس منهم، وقد فسر به رضي الله عنهما هذه الآية، وقال ابن عباس مرة الهمداني: إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة، يعني الذي نزلت فيه هذه الآية، ومن ذلك قول : [ ص: 370 ] حسان بن ثابت
وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
ومنه قول أيضا: حسان
زنيم تداعاه الرجال زيادة كما زيد في عرض الأديم الأكارع
فقال كثير من المفسرين: هذا هو المراد بالآية، وذلك أن الأخنس بن شريق كان من ثقيف حليفا لقريش، وقال : أراد بالزنيم أن له زنمة في عنقه كزنمة الشاة، وهي الهنة التي تتعلق في حلقها، وما كنا نعرف المشار إليه حتى نزلت فعرفناه بزنمته، وقال ابن عباس : يقال للتيس زنيم; إذ له زنمتان، ومنه قول الأعرابي في صفة شاته: "كأن زنمتيها تتوا قليسية" وروي أن أبو عبيدة الأخنس بن شريق كان بهذه الصفة، كان له زنمة، وروى رضي الله عنهما أنه قال: لما نزلت هذه الصفات لم نعرف صاحبها حتى نزل "زنيم" فعرف بزنمته، وقال بعض المفسرين: الزنيم: المريب، القبيح الأفعال. ابن عباس
واختلفت القراءة في قوله تعالى: أن كان ذا مال وبنين ، فقرأ ، ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي وحفص عن ، وأهل عاصم المدينة: "أن كان" على الخبر، [ ص: 371 ] وقرأ : "أأن كان" بهمزتين مخففتين على الاستفهام، وقرأ حمزة ، ابن عامر ، والحسن وابن أبي إسحاق ، ، وعاصم : "آن كان" على الاستفهام بتسهيل الهمزة الثانية، والعامل في "أن" فعل مضمر تقديره: كفر أو جحد أو عند، ويفسر هذا الفعل قوله تعالى: وأبو جعفر إذا تتلى عليه الآية، وجاز أن يعمل المعنى وهو متأخر من حيث كان قوله تعالى: "أن كان" في منزلة الظرف; إذ يقدر باللام، أي: لأن كان، وقد قال فيه بعض النحاة: إنه في موضع خفض باللام كما لو ظهرت، فكما عمل المعنى في الظرف المتقدم فكذلك يعمل في هذا، ومنه قوله تعالى: ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ، فالعامل في "إذا" معنى قوله تعالى: إنكم لفي خلق جديد تبعثون ، أو نحوه من التقدير، ولا يجوز أن يعمل: "ينبئ" في "إذا" لأنه مضاف إليه قد أضيف إذا إلى الجملة، ولا يجوز أن يعمل في "أن"، قال: لأنها جواب لـ"إذا" ولا تعمل فيما قبلها.
وأجاز أن يعمل فيه "عتل" وإن كان قد وصف، ويصح -على هذا النظر- أن يعمل فيه "زنيم" لا سيما على قول من يفسره بالقبيح الأفعال، ويجوز أن يعمل في "أن كان" "تطيعه" التي يقتضيها قوله سبحانه: "ولا تطع"، وهذا على قراءة الاستفهام يبعد، وإنما يتجه: لا تطعه لأجل كونه كذا، وله -على كل وجه- مفعول من أجله، وتأمل. وقد تقدم القول في "الأساطير" في غير ما موضع. أبو علي
وقوله تعالى: سنسمه على الخرطوم معناه: على الأنف، قاله ، وذلك أن الخرطوم يستعار في أنف الإنسان، وحقيقته في مخاطم السباع، ولم يقع التوعد في هذه الآية بأن يوسم هذا الإنسان على أنفه بسمة حقيقة بل هذه عبارة عن فعل يشبه الوسم على الأنف، واختلف الناس في ذلك الفعل، فقال المبرد : هو الضرب بالسيف، أي يضرب في وجهه، وعلى أنفه فيجيء ذلك كالوسم على الأنف، وحل به ذلك يوم ابن عباس بدر، وقال محمد بن يزيد المبرد : ذلك في عذاب الآخرة في جهنم، وهو تعذيب بنار على أنوفهم، وقال آخرون: ذلك في يوم القيامة، أي يوسم على أنفه بسمة [ ص: 372 ] يعرف بها كفره وانحطاط قدره، وقال وغيره: معناه: سيفعل به في الدنيا من الذم له والمقت والإشهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى به، فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتا بينا، وهذا المعنى كما تقول: "سأطوقك طوق الحمامة" أي: أثبت الأمر بينا فيك، ونحو هذا أراد قتادة جرير بقوله:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي . . . . . . . . . . . . . .
وفي الوسم على الأنف تشويه، فجاءت استعارته في المذمات بليغة جدا، وإذا تأملت حال أبي جهل ونظرائه وما ثبت لهم في الدنيا من سوء الأحدوثة رأيت أنهم قد وسموا على الخراطم.
قوله تعالى: "إنا بلوناهم"، يريد تعالى قريشا، أي: امتحناهم، و"أصحاب الجنة" -فيما ذكر- قوم إخوة، كان لأبيهم جنة وحرث مغل، فكان يمسك منه قوته ويتصدق على المساكين بباقيه، وقيل: بل كان يحمل المساكين معه في وقت حصاده وجده فيجذيهم منه، فمات الشيخ، فقال ولده: نحن جماعة، وفعل أبينا كان خطا، فلنذهب إلى جنتنا، ولا يدخلها علينا مسكين ولا نعطي منها شيئا، قال: فبيتوا أمرهم وعزمهم على هذا، فبعث الله طائفا بالليل من النار أو غير ذلك فاحترقت، فقيل: أصبحت سوداء، وقيل: بيضاء كالزرع اليابس المحصود، فلما أصبحوا إلى جنتهم لم يروها فحسبوا أنهم قد أخطئوا الطريق، ثم تبينوها فعلموا أن الله تعالى أصابهم فيها، فتابوا حينئذ وأنابوا وكانوا مؤمنين من أهل الكتاب، فشبه الله تعالى قريشا بهم، في أنه [ ص: 373 ] امتحنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وهداه كما امتحن أولئك بفعل أبيهم وبأوامر شرعهم، فكما حل بأولئك العقاب في جنتهم كذلك يحل بهؤلاء في جميع دنياهم وحياتهم، ثم التوبة معروضة لمن بقي منهم كما تاب أولئك، وقال كثير من المفسرين: السنون السبع التي أصابت قريشا هي بمثابة ما أصاب أولئك في جنتهم.
وقوله تعالى: "ليصرمنها" أي ليجدنها، وصرام النخل جد ثمره، وكذلك في كل شجرة، و"مصبحين" معناه: إذا دخلوا في الصباح، وقوله سبحانه: "ولا يستثنون" معناه ولا يتوقفون في ذلك ولا ينثنون عن رأي منع المساكين، وقال : معناه: ولا يقولون "إن شاء الله"، بل عزموا على ذلك عزم من يملك أمره. و"الطائف": الأمر الذي يأتي بالليل، ذكر هذا التخصيص مجاهد ، ويرده قوله تعالى: الفراء إذا مسهم طائف من الشيطان ، و"الصريم" قال الفراء ومنذر وجماعة: أراد به الليل، من حيث اسودت جثثهم، وقال آخرون: أراد به الصبح، من حيث ابيضت كالحصيد، قاله : و"الصريم" يقال لليل وللنهار من حيث كل واحد منهما ينصرم من صاحبه، وقال سفيان الثوري : "الصريم" الرماد الأسود بلغة ابن عباس جذيمة، وقال أيضا وغيره: الصريم: رملة ابن عباس باليمن معروفة لا تنبت، فشبه جثثهم بها.