وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية
قرأ ، ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، وأبو جعفر وشيبة ، ، والناس: "ومن قبله" بفتح القاف وسكون الباء، أي الأمم الكافرة التي كانت قبله، ويؤيد ذلك ذكره بعد قصة وأبو عبد الرحمن نوح في طغيان الماء; لأن قوله: "من قبله" قد تضمنهم فحسن اقتضاب أمرهم بعد ذلك دون تصريح، وقال أبو عمرو ، والكسائي في -رواية وعاصم أبان- بخلاف عنه- والحسن ، وأبو رجاء والجحدري، : "ومن قبله" ، بكسر القاف وفتح الباء, أي: أجناده وأهل طاعته، ويؤيد ذلك أن في مصحف وطلحة : [وجاء فرعون ومن معه]، وفي حرف أبي بن كعب : "ومن تلقاءه"، وقرأ أبي موسى الأشعري : "ومن حوله". و"قبل الإنسان": ما يليه في المكان، وكثر استعمالها حتى صارت بمنزلة: عندي وفي ذمتي وما يليني بأي وجه وليني. طلحة بن مصرف
[ ص: 388 ] و"المؤتفكات": قرى قوم لوط عليه السلام، وكانت أربعا فيما روي، وائتفكت: قلبت وصار عاليها سافلها فائتفكت هي فهي مؤتفكة، وقرأ هنا: "والمؤتفكة" على الإفراد، و"الخاطئة" إما أن تكون صفة لمحذوف، كأنه قال: بالفعل الخاطئة، وإما أن يريد المصدر، أي بالخطأ في كفرهم وعصيانهم. الحسن
وقوله تعالى: فعصوا رسول ربهم يحتمل أن يكون "الرسول" اسم جنس، كأنه قال: فعصى هؤلاء الأقوام والفرق أنبياء الله تعالى الذين أرسلهم إليهم، ويحتمل أن يكون "الرسول" بمعنى الرسالة، وقال : يعني الكلبي موسى عليه السلام، وقال غيره -في كتاب -: يعني الثعلبي لوطا عليه السلام. و"الرابية": النامية التي قد عظمت جدا، ومنه: الربا، وربا المال، ومنه "اهتزت وربت".
ثم عدد تعالى على الناس نعمته في قوله تعالى: إنا لما طغى الماء والمراد: طغى الماء في وقت الطوفان الذي كان على قوم نوح عليه السلام، والطغيان: الزيادة على الحدود المتعارفة في الأشياء، ومعناه: طغى على خزانه في خروجه، وعلى البشر في أن أغرقهم، قال : علا على كل شيء خمسة عشر ذراعا، و"الجارية": السفينة. قتادة
والضمير في قوله تعالى لنجعلها عائد على الفعلة، أي: من تذكرها ازدجر، ويحتمل أن يعود على "الجارية"، أي: من سمعها اعتبر، و"الجارية" يراد بها سفينة نوح عليه السلام، قاله منذر، وقال المهدوي: المعنى: في السفن الجارية، وقال : أبقى الله تعالى تلك السفينة حتى رأى بعض عيدانها أوائل هذه الأمة، وغيرها من السفائن التي صنعت بعدها قد صارت رمادا. قتادة
وقوله تعالى: وتعيها أذن واعية عبارة عن الرجل الفهم المنور القلب الذي يسمع القول فيتلقاه بفهم وتدبر، قال : "واعية" عقلت عن الله عز وجل، ويروى أبو عمران الجوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رضي الله عنه: "إني دعوت الله أن يجعلها أذنك يا لعلي بن أبي طالب قال علي"، : فما سمعت بعد ذلك شيئا فنسيته. علي رضي الله عنه
[ ص: 389 ] وقرأ الجمهور: "تعيها" بكسر العين على وزن "تليها"، وقرأ -في رواية ابن كثير الحلواني- وقنبل ، : "وتعيها" بسكون العين، جعل التاء التي هي علامة في المضارع بمنزلة الكاف من "كتف"; إذ حرف المضارعة لا يفارق الفعل فيسكن تخفيفا كما يقال: "كتف" ونحو هذا قول الشاعر: وابن مصرف
قالت سليمى اشتر لنا سويقا.
على أن هذا البيت منفصل، فهو أبعد، لكن ضرورة الشعر تسامح به.
ثم ذكر تعالى بأمر القيامة، و"الصور": القرن الذي ينفخ فيه، قال سليمان بن أرقم : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصور فقال: "هو قرن من نور، فمه أوسع من السماوات" والنفخة المشار إليها في هذه الآية ومعها يكون الصعق ثم نفخة البعث، وقيل: هي نفخات ثلاث: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ثم نفخة البعث، والإشارة بآياتنا هذه إلى نفخة الفزع لأن حمل الجبال هو بعدها، وقرأ الجمهور: "نفخة" بالرفع، لما نعت صح رفعه، وقرأ أبو السمال بالنصب. نفخة القيامة التي للفزع،
وقرأ جمهور القراء: "وحملت" بتخفيف الميم، بمعنى: حملتها الرياح والقدرة، وقرأ فيما روي عنه: "وحملت" بشد الميم، وذلك يحتمل معنيين: أحدهما أنها حاملة حملت قدرة لله تعالى وعنفا وشدة تفتتها، فهي محملة حاملة، والآخر أن تكون محمولة حملتها ملائكة أو قدرة. ابن عامر
[ ص: 390 ] وقوله تعالى: فدكتا دكة واحدة . قال: "فدكتا" وقد ذكر جمعا وساغ ذلك لأن المذكور فرقتان، وهذا كما قال الشاعر :
ألم يحزنك أن حبال قومي وقومك قد تباينتا انقطاعا
ومنه قوله تعالى: "كانتا رتقا"، و"دكتا" معناه: سوى جميعهما، كما يقال: "ناقة دكاء" إذا ضعفت فاستوت حدبتها مع ظهرها.
و"الواقعة": القيامة والطامة الكبرى، وقال بعض الناس: هي إشارة إلى صخرة بيت المقدس، وهذا ضعيف، و"انشقاق السماء" هو تفطرها وتميز بعضها من بعض، وذلك هو الوهن الذي ينالها، كما يقال في الجدارات البالية المشققة: واهية، و"الملك" اسم جنس يريد به الملائكة، وقال جمهور المفسرين: الضمير في "أرجائها" عائد على السماء، أي الملائكة على نواحيها وما لم به منها، و"الرجا". الجانب من الحائط والبئر ونحوه، ومنه قول الشاعر :
كأن لم تري قبلي أسيرا مقيدا
ولا رجلا يرمى به فى الرجوان
[ ص: 391 ] أي: يلقى في بئر فلا يجد ما أتمسك به، وقال "أيضا" الضحاك : الضمير في "أرجائها" عائد على الأرض وإن كان لم يتقدم لها ذكر قريب لأن القصة واللفظة تقتضيان إفهام ذلك، وفسر هذه الآية بما روي أن الله تعالى يأمر ملائكة السماء الدنيا فيقفون صفا على حافات الأرض، ثم يأمر ملائكة السماء الثانية فيصفون خلفهم، ثم كذلك ملائكة كل سماء، فكلما بدا أحد من الجن والإنس وجد الأرض قد أحيط بها،وقالوا: فهذا تفسير هذه الآية، وهو أيضا معنى قوله تعالى: وابن جبير وجاء ربك والملك صفا صفا ، وهو أيضا تفسير قوله تعالى: يوم التناد يوم تولون مدبرين على قراءة من شد الدال، وهو تفسير قوله تعالى: يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا .
واختلف الناس في الثمانية الحاملين للعرش -فقال - رضي الله عنهما-: هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم أحد عدتهم، وقال ابن عباس : هم ثمانية أملاك على هيئة الوعول، وقال جماعة من المفسرين: هم على هيئة الناس، أرجلهم تحت الأرض السفلى ورؤوسهم وكواهلهم فوق السماء، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ابن زيد "هم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة قواهم الله بأربعة سواهم" والضمير في قوله تعالى: "فوقهم" قيل:هو للملائكة الحملة، وقيل: للعالم كله، وكل قدرة كيفما تصورت فإنما هي بحول الله وقوته.