تفسير سورة الفجر
وهي مكية عند جمهور المفسرين، وحكى في كتابه المؤلف في تنزيل القرآن عن بعض العلماء أنه قال: إنها مدنية، والأول أشهر وأصح. أبو عمرو الداني
قوله عز وجل:
والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد
قال جمهور المفسرين: "الفجر" هنا هو المشهور الطالع كل يوم، وقال رضي الله عنهما: الفجر: النهار كله، وقال ابن عباس أيضا ابن عباس : الفجر الذي أقسم الله به: صلاة الصبح، وقرأ: " إن قرآن الفجر" وقال وزيد بن أسلم : إنما أراد فجر يوم النحر، وقال مجاهد : المراد فجر ذي الحجة، وقال الضحاك : المراد فجر ليلة جمع، وقال مقاتل أيضا: المراد فجر أول يوم المحرم لأنه فجر السنة، وقيل: المراد فجر العيون من الصخور وغيرها. وقال ابن عباس : المراد فجر يوم الجمعة. عكرمة
واختلف الناس في "الليالي العشر" -فقال بعض الرواة: هي العشر الأول من رمضان، وابن عباس : هي العشر الأواخر من رمضان، وقال والضحاك يمان وجماعة من المتأولين: هي العشر الأول من المحرم، وفيه يوم عاشوراء، وقال
[ ص: 605 ] الزبير ، ابن ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي وعطية العوفي : هي عشر ذي الحجة، وقال : هي عشر مجاهد موسى عليه السلام التي أتمها الله تعالى له، وقرأ الجمهور: "وليال"، وقرأ بعض القراء: [وليالي عشر] بالإضافة، وكأن هذا على أن "العشر" مشار إليه معين بالعلم به، ثم وقع القسم بلياليه، فكأن "العشر" اسم لزمه، وهذا نحو قولهم: "فعلت كذا في العشر الأوسط"، فإنما هذا على أن "العشر" اسم لزم حتى عومل معاملة الفرد ثم وصف به، ومن راعى فيه الليالي قال "العشر الوسط".
واختلف الناس في "الشفع والوتر" -فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم: جابر "الشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة" وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أبو أيوب ، وروى "الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى، والوتر ليلة النحر" عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: عمران بن حصين "هي الصلوات منها الشفع ومنها الوتر" ، وقال وغيره: الشفع اليومان من أيام التشريق، والوتر اليوم الثالث، وقال آخرون: الشفع العالم، والوتر الله سبحانه; إذ هو تعالى الواحد محضا وسواه ليس كذلك، وقال بعض المتأولين: الشفع ابن الزبير آدم وحواء عليهما السلام، والوتر الله سبحانه وتعالى، وقال ، ابن سيرين ، ومسروق وأبو صالح : الشفع والوتر شائعان في الخلق كله، الإيمان والكفر، والإنس والجن وما اطرد نحو هذا فهي أضداد أو كالأضداد، ووترها الله تعالى فرد واحد، وقيل: الشفع الصفا والمروة، والوتر البيت، وقال : الشفع أبواب الجنة لأنها ثمانية، والوتر أبواب النار لأنها سبعة، وقال الحسين بن الفضل : الشفع الأيام والليالي، والوتر يوم القيامة لأنه لا ليل بعده، وقال مقاتل : الشفع تضاد أوصاف المخلوقين كالعز والذل ونحوه، والوتر اتحاد صفات الله تعالى، عز محض وكرم محض، ونحوه، وقيل: الشفع، قرآن الحج والعمرة، والوتر الإفراد بالحج، وقال [ ص: 606 ] أبو بكر الوراق أقسم الله تعالى بالعدد لأنه إما شفع وإما وتر، وقال بعض المفسرين: الشفع الحسن: حواء والوتر آدم عليهما السلام، وقال ابن عباس : الوتر صلاة المغرب والشفع صلاة الصبح، وقال ومجاهد : الشفع الركعتان من المغرب والوتر الركعة الأخيرة، وقال بعض العلماء: الشفع تنفل الليل مثنى مثنى، والوتر الركعة الأخيرة المعروفة. أبو العالية
وقرأ جمهور القراء والناس: "والوتر" بفتح الواو، وهي لغة قريش وأهل الحجاز، وقرأ حمزة والكسائي -بخلاف- والحسن ، وأبو رجاء ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش : "والوتر" بكسر الواو، وهي لغة وقتادة تميم وبكر، وذكر أن الأغر رواها عن الزهراوي ، وهما لغتان في الفرد، وأما الذحل فإنما هو "وتر" بالكسر لا غير، وقد ذكر ابن عباس أن الزهراوي حكى فيه اللغتين، الفتح والكسر. الأصمعي
و"سرى الليل" ذهابه وانقراضه، هذا قول الجمهور، وقال ، ابن قتيبة ، وغيرهما: المعنى إذا يسري فيه، فيخرج هذا الكلام مخرج "ليل نائم ونهار صائم"، وقال والأخفش ، مجاهد ، وعكرمة : أراد بهذا ليلة جمع لأنه يسرى فيها، وقرأ الجمهور: "يسر" دون ياء في وصل ووقف، وقرأ والكلبي : "يسري" بالياء في وصل ووقف، وقرأ ابن كثير نافع -بخلاف- عنه "يسري" بياء في الوصل ودونه في الوقف، وحذفها تخفيف لاعتدال رؤوس الآي إذ هي فواصل كالقوافي، قال وأبو عمرو : الوصل في هذا وما أشبهه بالياء، والوقف بغير ياء على خط المصحف، ووقف تعالى على هذه الأقسام العظام هل فيها مقنع وحسب لذي عقل. و"الحجر" العقل والنهية، والمعنى: فيزدجر ذو الحجر وينظر في آيات الله تعالى. اليزيدي
ثم وقف تعالى على مصارع الأمم الخالية الكافرة وما فعل ربك من التعذيب والإهلاك، والمراد بذلك توعد قريش ونصب المثل لها. و"عاد" قبيلة لا خلاف في ذلك، واختلف الناس في "إرم" - فقال مجاهد : هي القبيلة بعينها، وعلى هذا قال وقتادة ابن قيس الرقيات:
مجدا تليدا بناه أوله أدرك عادا وقبلها إرما
[ ص: 607 ] وقال زهير :
وآخرين ترى الماذي عدتهم من نسج داود أو ما أورثت إرم
وقال : إرم هو أبو ابن إسحاق عاد كلها، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، وقال غير : هو أحد أجدادها، وقال جمهور المفسرين: إرم مدينة لهم عظيمة كانت على وجه الدهر ابن إسحاق باليمن، وقال : هي محمد بن كعب "الإسكندرية" ، وقال سعيد بن المسيب والمقبري: هي دمشق، وهذان القولان ضعيفان، وقال "إرم" معناه: قديمة، وقرأ الجمهور: "بعاد إرم"، فصرفوا "عادا" على إرادة الحي، ونعتوا بـ "إرم " بكسر الهمزة على أنها القبيلة بعينها، ويؤيد هذا قول اليهود مجاهد للعرب: سيخرج فينا نبي نتبعه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فهذا يقتضي أنها قبيلة، وعلى هذه القراءة يتجه أن يكون "إرم" أبا لعاد أو جدا غلب اسمه على القبيلة، وقرأ "بعاد إرم" على ترك الصرف في "عاد" وإضافتها إلى "إرم"، وهذا يتجه على أن يكون "إرم" أبا أو جدا، وعلى أن تكون مدينة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن : "بعاد أرم" بفتح الدال والهمزة من "أرم" وفتح الراء والميم، على ترك الصرف في "عاد" والإضافة، وقرأ الضحاك ابن عباس "بعاد إرم" بشد الميم على الفعل الماضي بمعنى: بلي وصار رميما، يقال أرم العظم ورم وأرمه الله، تعدى "رم" بالهمزة. وقرأ والضحاك أيضا: "أرم ذات" بالنصب في التاء، على إيقاع الإرمام عليها، أي: أبلاها ربك وجعلها رميما، وقرأ ابن عباس : "أرم" بفتح الهمزة [ ص: 608 ] وكسر الراء، وهي لغة في ابن الزبير المدينة، وقرأ "أرم" بسكون الراء وفتح الهمزة وهي تخفيف في "أرم" كفخذة وفخذ. الضحاك بن مزاحم
واختلف الناس في قوله تعالى: ذات العماد فمن قال "إرم مدينة" قال: العماد هي أعمدة الحجارة التي بنيت بها، وقيل القصور العالية والأبراج يقال لها: عماد، ومن قال "إرم" قبيلة قال: العماد إما أعمدة أبنيتهم وإما أعمدة بيوتهم التي يرحلون بها; لأنهم كانوا أهل عمود ينتجعون البلاد، قاله وجماعة، وقال مقاتل : هي كناية عن طول أبدانهم. ابن عباس
وقرأ الجمهور: " لم يخلق" بضم الياء وفتح اللام "مثلها" رفعا، وقرأ "لم يخلق" بفتح الياء وضم اللام "ومثلها" نصبا، وذكر ابن الزبير عنه أنه قرأ: "لم نخلق" بالنون وضم اللام "مثلها" نصبا، وذكر التي قبل هذه عن أبو عمرو الداني ، والضمير في مثلها يعود إما على المدينة وإما على القبيلة. عكرمة
وقرأ "وثمودا" بتنوين الدال، و"جابوا الصخر" معناه: خرقوه ونحتوه، وكانوا في واديهم قد نحتوا بيوتهم في حجارة، و"الوادي" ما بين الجبلين وإن لم يكن فيه ماء، هذا قول كثير من المفسرين في معنى "جابوا الصخر بالواد"، وقال يحيى بن وثاب : يريد: بوادي القرى، وقال قوم: المعنى: جابوا واديهم وجلبوا ماءهم في صخر شقوه، وهذا فعل ذوي القوة والآمال، وقرأ الثعلبي : "بالوادي" بالياء، وقرأ أكثر السبعة: "بالواد" بدون ياء، واختلف في ذلك ابن كثير ، وقد تقدم هذا. نافع
و"فرعون" هو فرعون موسى عليه السلام، واختلف الناس في أوتاده فقيل أبنيته العالية العظيمة، قاله ، وقيل: جنوده الذين بهم يثبت ملكه، وقيل المراد أوتاد أخبية عساكره وذكرت لكثرتها ودلالتها على غزواته وطوافه في البلاد، قاله محمد بن كعب ومنه قول ابن عباس الأسود بن يعفر:
.............. في ظل ملك ثابت الأوتاد
[ ص: 609 ] وقال : كان له أوتاد يلعب عليها الرجال بين يديه وهو مشرف عليهم، وقال قتادة : كان يوتد الناس بأوتاد الحديد، يقتلهم بذلك، يضربها في أبدانهم حتى تنفذ إلى الأرض، وقيل: إنما فعل ذلك بزوجته مجاهد آسية، وقيل: فعل ذلك بماشطة بنته لأنها كانت آمنت بموسى عليه السلام.
و"الطغيان" تجاوز الحدود، و"الصب" يستعمل في السوط لأنه يقتضي سرعة في النزول، ومنه قول الشاعر في المحدودين في الإفك:
فصبت عليهم محصدات كأنها شآبيب ليست من سحاب ولا قطر
ومن ذلك قول المتأخر في صفة الخيل:
صببنا عليها ظالمين سياطنا فطارت بها أيد سراع وأرجل
وإنما خص "السوط" بأن يستعار للعذاب لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره، وقال بعض اللغويين: السوط هنا مصدر من ساط يسوط، فكأنه تعالى قال: خلط عذاب.
و"المرصاد" و"المرصد": موضع الرصد، قاله اللغويون، أي أنه عند لسان كل قائل، ومرصد لكل فاعل، وعلى هذا التأويل في المرصاد جواب عامر بن قيس
[ ص: 610 ] لعثمان رضي الله عنه حين قال له: أين ربك يا أعرابي؟ قال بالمرصاد، ويحتمل أن يكون "المرصاد" في الآية اسم فاعل، كأنه تعالى قال: لبالراصد، فعبر ببناء مبالغة، وروي في بعض الحديث "إن على جسر جهنم ثلاث قناطر، على إحداهما الأمانة، وعلى الأخرى الدم، وعلى الأخيرة الرب تعالى، فذلك قوله إن ربك لبالمرصاد .