وكثير من السالكين طريق العبادة والإرادة والزهد والرياضة، [ ص: 351 ] الذين اشتبهت عليهم الأمور، وتعارضت عندهم الأذواق والمواجيد، يحسنون الظن بطريق أهل العلم والنظر والاستدلال، ظانين أنه ينكشف به لهم الحقائق.
وحقيقة الأمر أنه لا بد من الأمرين، فلا بد من العلم والقصد، ولا بد من العلم والعمل به، ومن علم بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم.
والعبد عليه واجبات في هذا وهذا، فلا بد من أداء الواجبات، ولا بد أن يكون كل منهما موافقا لما جاء به الرسول، غاويا في عمله، فمن أقبل على طريقة النظر والعلم، من غير متابعة للسنة، ولا عمل بالعلم، كان ضالا في عمله، ومن كان معه علم صحيح مطابق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بلا عمل به كان غاويا، ومن كان معه عمل موافق للسنة بدون العلم المأمور به كان ضالا، فمن خرج عن موجب الكتاب والسنة من هؤلاء وهؤلاء كان ضالا، وإذا لم يعلم بعلمه، أو عمل بغير علم، كان ذاك فسادا ثانيا، والذين لم يعتصموا بالكتاب والسنة من أهل الأحوال والعبادات، والرياضات والمجاهدات، ضلالهم أعظم من ضلال، من لم يعتصم بالكتاب والسنة من أهل الأقوال والعلم، وإن كان قد يكون في هؤلاء من الغي ما ليس فيهم، فإنهم يدخلون في أنواع من الخيالات الفاسدة، والأحوال الشيطانية المناسبة لطريقهم. ومن سلك طريق الإرادة والعبادة، والزهد والرياضة، من غير متابعة للسنة، ولا علم ينبني العمل عليه، كان ضالا غاويا،
كما قال تعالى: هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم [سورة الشعراء: 221-222] . [ ص: 352 ]
والإنسان همام حارث، فمن لم يكن همه وعمله ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كان همه وعمله مما لا يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والأحوال نتائج الأعمال، فيكون ما يحصل لهم بحسب ذلك العمل، وكثيرا ما تتخيل له أمور يظنها موجودة في الخارج ولا تكون إلا وفي نفسه، فيسمع خطابا يكون من الشيطان أو من نفسه، يظنه من الله تعالى، حتى أن أحدهم يظن أنه يرى الله بعينه، وأنه يسمع كلامه بأذنه من خارج، كما سمعه موسى بن عمران، ومنهم من يكون ما يراه شياطين و[ما] يسمعه كلامهم و[هو] يظنه من كرامات الأولياء، وهذا باب واسع بسطه موضع آخر.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: . [ ص: 353 ] « الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام»
وكثيرا ما يرى الإنسان صورة اعتقاده، فيكون ما يحصل له بمكاشفته ومشاهدته هو ما اعتقده من الضلال، حتى أن النصراني يرى في كشفه التثليث الذي اعتقده، وليس أحد من الخلق معصوما أن يقر على خطأ إلا الأنبياء، فمن أين يحصل لغير الأنبياء نور إلهي تدرك به حقائق الغيب وينكشف له أسرار هذه الأمور على ما هي عليه، بحيث يصير بنفسه مدركا لصفات الرب وملائكته، وما أعده الله في الجنة والنار لأوليائه وأعدائه؟!
وهذا الكلام أصله من مادة المتفلسفة والقرامطة الباطنية، الذين يجعلون النبوة فيضا يفيض من العقل الفعال على نفس النبي، ويجعلون ما يقع في نفسه من الصور هي ملائكة الله، وما يسمعه في نفسه من الأصوات هو كلام الله، ولهذا يجعلون النبوة مكتسبة، فإذا استعد الإنسان بالرياضة والتصفية فاض عليه ما فاض على نفوس الأنبياء، وعندهم هذا الكلام باطل باتفاق المسلمين واليهود والنصارى.
ومع هذا فإن هؤلاء لا يقولون: إن كل أحد يمكنه أن يدرك بالرياضة ما أدركه من هو أكمل منه، فلا يتصور على هذا الأصل أن يدرك عامة الخلق ما أدركه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو فعلوا ما فعلوا، فإن كان العلم بما أخبر به لا يعلم إلا بهذا الطريق، لم يمكنه معرفته بحال.