الوجه التاسع والثلاثون
أن يقال: إن الرسل لم يسكتوا عن الكلام في هذا الباب، ولو سكتوا عنه للزم تفضيل شيوخ النفاة وأئمتهم على الأنبياء، كما تقدم، فكيف إذا تكلموا فيه بما يفهم منه الخلق نقيض الحق على قول النفاة، [ ص: 364 ] فإذا كان الحق هو قول النفاة، ولم يتكلموا إلا بما يدل على نقيضه، كانوا - مع أنهم لم يهدوا الخلق ويعلموهم الحق عند النفاة، - قد لبسوا عليهم ودلسوا، بل أضلوهم وجهلوهم وأخرجوهم إلى الجهل المركب، وظلمات بعضها فوق بعض: إما من علم كانوا عليه، وإما من جهل بسيط، أو حيروهم وشككوهم وجعلوهم مذبذبين لا يعرفون الحق من الباطل، ولا الهدى من الضلال، إذ كانوا ما تكلموا به عارضوا به طرق العلم العقلية والكشفية.
ويضر ولا ينفع، ويفسد ولا يصلح، ولا يزكي النفوس ويعلمها الكتاب والحكمة، بل يدسي النفوس ويوقعها في الضلال والشبهة، بل يكون كلام من يسفسط تارة ويبين أخرى، كما يوجد في كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة، فعند هؤلاء كلام الأنبياء وخطابهم في أشرف المعارف وأعظم العلوم يمرض ولا يشفي، ويضل ولا يهدي، كابن الخطيب، وابن سينا، وأمثالهم خيرا من كلام الله وكلام رسله، فلا يكون خير الكلام كلام الله، ولا أصدق الحديث حديثه، بل يكون بعض قرآن وابن عربي، مسيلمة الكذاب، الذي ليس فيه كذب في نفسه، وإن كانت نسبته إلى الله كذب، ولكنه مما لا يفيد كقوله: الفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، إن ذلك من خلق ربنا [ ص: 365 ] لجليل - عند هؤلاء الملاحدة خيرا من كلام الله، الذي وصف به نفسه، ووصف به ملائكته، واليوم الآخر، وخيرا من كلام رسوله، لأن قرآن مسيلمة، وإن لم تكن فيه فائدة ولا منفعة، فلا مضرة فيه، ولا فساد، بل يضحك المستمع - كما يضحك الناس - من أمثاله.
وكلام الله ورسوله عند هؤلاء أضل الخلق وأفسد عقولهم، وأديانهم، وأوجب أن يعتقدوا نقيض الحق في الإيمان بالله ورسله، أو يشكوا ويرتابوا في الحق، أو يكونوا- إذا عرفوا بعقلهم- تعبوا تعبا عظيما في صرف الكلام عن مدلوله ومقتضاه، وصرف الخلق عن اعتقاد مضمونه وفحواه، ومعاداة من يقر بذلك، وهم السواد الأعظم من أتباع الرسل.