فإن قيل: قلت إن أكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول، وأقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين، وما بلغوه عن الرسول، ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك.
قيل: هؤلاء أنواع: نوع ليس لهم خبرة بالعقليات، بل هم يأخذون ما قاله النفاة عن الحكم والدليل، ويعتقدونها براهين قطعية، وليس لهم قوة على الاستقلال بها، بل هم في الحقيقة مقلدون فيها، وقد اعتقد أقوال السلف أولئك، فجميع ما يسمعونه من القرآن والحديث [ ص: 33 ] وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك، بل إما أن يظنوه موافقا لهم، وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه.
وهذه حال مثل أبي حاتم البستي، وأبي سعد السمان المعتزلي، ومثل أبي ذر الهروي، وأبي بكر البيهقي، والقاضي عياض، وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي الحسن علي بن المفضل المقدسي، وأمثالهم.
والثاني: من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد ويغلط فيها، كما غلط غيره، فيشارك الجهمية في بعض أصولهم الفاسدة، مع أنه لا [ ص: 34 ] يكون له من الخبرة بكلام السلف والأئمة في هذا الباب ما كان لأئمة السنة، وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما.
وهذه حال أبي محمد بن حزم، وأبي الوليد الباجي، وأمثالهم. والقاضي أبي بكر بن العربي،
ومن هذا النوع بشر المريسي وأمثالهما. ومحمد بن شجاع الثلجي،
ونوع ثالث سمعوا الأحاديث، والآثار، وعظموا مذهب السلف، وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار، ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها.
وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض.
وهذا حال أبي بكر بن فورك، والقاضي أبي يعلى، وأمثالهم. [ ص: 35 ] وابن عقيل
ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل، كما فعله وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار. ابن فورك
وتارة يفوضون معانيها، ويقولون: تجري على ظواهرها، كما فعله وأمثاله في ذلك. القاضي أبو يعلى
وتارة يختلف اجتهادهم، فيرجحون هذا تارة وهذا تارة، كحال وأمثاله. ابن عقيل
وهؤلاء قد يدخلون في الأحاديث المشكلة ما هو كذب موضوع، ولا يعرفون أنه موضوع، وما له لفظ يدفع الإشكال، مثل أن يكون رؤيا منام، فيظنونه كان في اليقظة ليلة المعراج.
ومن الناس من له خبرة بالعقليات المأخوذة عن الجهمية وغيرهم، وقد شاركهم في بعض أصولها، ورأى ما في قولهم من مخالفة الأمور المشهورة عند أهل السنة، كمسألة القرآن والرؤية، فإنه قد اشتهر عند العامة والخاصة أن مذهب السلف وأهل السنة والحديث: أن وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، فأراد هؤلاء أن يجمعوا بين نصر ما اشتهر عند أهل السنة والحديث، وبين موافقة الله يرى في الآخرة، الجهمية في تلك الأصول العقلية، التي ظنها صحيحة، ولم يكن لهم من الخبرة المفصلة بالقرآن ومعانيه، والحديث وأقوال الصحابة، ما لأئمة السنة والحديث، فذهب مذهبا مركبا من هذا وهذا، وكلا الطائفتين ينسبه إلى التناقض. [ ص: 36 ]
وهذه طريقة وأئمة أتباعه، الأشعري كالقاضي أبي بكر، وأمثالهما ولهذا تجد أفضل هؤلاء، وأبي إسحاق الإسفراييني، يذكر مذهب أهل السنة والحديث على وجه الإجمال، ويحكيه بحسب ما يظنه لازما، ويقول: إنه يقول بكل ما قالوه، وإذا ذكر مقالات أهل الكلام، من كالأشعري، المعتزلة وغيرهم، حكاها حكاية خبير بها، عالم بتفصيلها.
وهؤلاء كلامهم نافع في معرفة تناقض المعتزلة وغيرهم، ومعرفة فساد أقوالهم. وأما في معرفة ما جاء به الرسول، وما كان عليه الصحابة والتابعون، فمعرفتهم بذلك قاصرة، وإلا فمن كان عالما بالآثار، وما جاء عن الرسول، وعن الصحابة والتابعين، من غير حسن ظن بما يناقض ذلك، لم يدخل مع هؤلاء: إما لأنه علم من حيث الجملة أن أهل البدع المخالفين لذلك مخالفون للرسول قطعا، وقد علم أنه من خالف الرسول فهو ضال، كأكثر أهل الحديث، أو علم مع ذلك فساد أقوال أولئك وتناقضها، كما علم أئمة السنة من ذلك ما لا يعلمه غيرهم كمالك وعبد العزيز الماجشون وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وسفيان بن عيينة وابن المبارك ووكيع بن الجراح وعبد الله بن إدريس وعبد الرحمن بن مهدي ومعاذ بن معاذ ويزيد بن هارون الواسطي ويحيى بن سعيد القطان وسعيد بن عامر والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبي عبد الرحمن القاسم بن [ ص: 37 ] سلام ومحمد بن إسماعيل البخاري والدارميين: ومسلم بن حجاج النيسابوري أبي محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن وعثمان بن سعيد وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين وأبي داود السجستاني وأبي بكر الأثرم ومن لا يحصي عدده إلا الله من أئمة الإسلام، وورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل. وحرب الكرماني
فهؤلاء كلهم متفقون على نقيض قول النفاة، كما تواترت الآثار عنهم، وعن غيرهم من أئمة السلف بذلك، من غير خلاف بينهم في ذلك.