الوجه الخامس عشر
أن يقال:
nindex.php?page=treesubj&link=29616كون الدليل عقليا أو سمعيا ليس هو صفة تقتضي مدحا ولا ذما ولا صحة ولا فسادا، بل ذلك يبين الطريق الذي به علم، وهو السمع أو العقل، وإن كان السمع لا بد معه من العقل، وكذلك كونه عقليا أو نقليا، وأما كونه شرعيا فلا يقابل بكونه عقليا، وإنما يقابل بكونه بدعيا، إذ البدعة تقابل الشرعة، وكونه شرعيا صفة مدح، وكونه بدعيا صفة ذم، وما خالف الشريعة فهو باطل.
ثم الشرعي قد يكون سمعيا وقد يكون عقليا، فإن كون الدليل شرعيا يراد به كون الشرع أثبته ودل عليه، ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه، فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع، فإما أن يكون معلوما بالعقل أيضا، ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه، فيكون شرعيا عقليا.
[ ص: 199 ]
وهذا كالأدلة التي نبه الله تعالى عليها في كتابه العزيز، من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة على توحيده وصدق رسله، وإثبات صفاته وعلى المعاد، فتلك كلها أدلة عقلية يعلم صحتها بالعقل، وهي براهين ومقاييس عقلية، وهي مع ذلك شرعية.
وإما أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإنه إذا أخبر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك شرعيا سمعيا.
وكثير من أهل الكلام يظن أن الأدلة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط، وأن الكتاب والسنة لا يدلان إلا من هذا الوجه، ولهذا يجعلون أصول الدين نوعين: العقليات، والسمعيات، ويجعلون القسم الأول مما لا يعلم بالكتاب والسنة.
وهذا غلط منهم، بل
nindex.php?page=treesubj&link=29616القرآن دل على الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها، وإن كان من الأدلة العقلية ما يعلم بالعيان ولوازمه، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=53سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد [فصلت: 53] .
وأما إذا أريد بالشرعي ما أباحه الشرع وأذن فيه، فيدخل في ذلك ما أخبر به الصادق، وما دل عليه ونبه عليه القرآن، وما دلت عليه وشهدت به الموجودات.
والشارع يحرم الدليل لكونه كذبا في نفسه، مثل أن تكون إحدى مقدماته باطلة، فإنه كذب، والله يحرم الكذب، لا سيما عليه، كقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=169ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه [الأعراف: 169] .
[ ص: 200 ]
ويحرمه لكون المتكلم به يتكلم بلا علم، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=36ولا تقف ما ليس لك به علم [الإسراء: 36] ، وقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=33وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [الأعراف: 33] ، وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=66ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم [آل عمران: 66] .
،ويحرمه لكونه جدالا في الحق بعد ما تبين، كقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=6يجادلونك في الحق بعدما تبين [الأنفال: 6] ، وقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=56ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق [الكهف: 56] .
وحينئذ فالدليل الشرعي لا يجوز أن يعارضه دليل غير شرعي، ويكون مقدما عليه، بل هذا بمنزلة من يقول: إن البدعة التي لم يشرعها الله تعالى تكون مقدمة على الشرعة التي أمر الله بها، أو يقول: الكذب مقدم على الصدق، أو يقول، خبر غير النبي صلى الله عليه وسلم يكون مقدما على خبر النبي، أو يقول: ما نهى الله عنه يكون خيرا مما أمر الله به، ونحو ذلك، وهذا كله ممتنع.
وأما الدليل الذي يكون عقليا أو سمعيا من غير أن يكون شرعيا، فقد يكون راجحا تارة ومرجوحا أخرى، كما أنه قد يكون دليلا صحيحا تارة، ويكون شبهة فاسدة أخرى، فما جاءت به الرسل عن الله تعالى إخبارا أو أمرا لا يجوز أن يعارض بشيء من الأشياء، وأما ما يقوله الناس فقد يعارض بنظيره، إذ قد يكون حقا تارة وباطلا أخرى، وهذا مما لا ريب فيه لكن من الناس من يدخل في الأدلة الشرعية ما ليس منها، كما أن منهم من يخرج منها ما هو داخل فيها، والكلام هنا على جنس الأدلة، لا على أعيانها.
الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ
أَنْ يُقَالَ:
nindex.php?page=treesubj&link=29616كَوْنُ الدَّلِيلِ عَقْلِيًّا أَوْ سَمْعِيًّا لَيْسَ هُوَ صِفَةً تَقْتَضِي مَدْحًا وَلَا ذَمًّا وَلَا صِحَّةً وَلَا فَسَادًا، بَلْ ذَلِكَ يُبَيَّنُ الطَّرِيقَ الَّذِي بِهِ عُلِمَ، وَهُوَ السَّمْعُ أَوِ الْعَقْلُ، وَإِنْ كَانَ السَّمْعُ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ الْعَقْلِ، وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ عَقْلِيًّا أَوْ نَقْلِيًّا، وَأَمَّا كَوْنُهُ شَرْعِيًّا فَلَا يُقَابَلُ بِكَوْنِهِ عَقْلِيًّا، وَإِنَّمَا يُقَابَلُ بِكَوْنِهِ بِدْعِيًّا، إِذِ الْبِدْعَةُ تُقَابِلُ الشِّرْعَةَ، وَكَوْنُهُ شَرْعِيًّا صِفَةُ مَدْحِ، وَكَوْنُهُ بِدْعِيًّا صِفَةَ ذَمٍّ، وَمَا خَالَفَ الشَّرِيعَةَ فَهُوَ بَاطِلٌ.
ثُمَّ الشَّرْعِيُّ قَدْ يَكُونُ سَمْعِيًّا وَقَدْ يَكُونُ عَقْلِيًّا، فَإِنَّ كَوْنَ الدَّلِيلِ شَرْعِيًّا يُرَادُ بِهِ كَوْنُ الشَّرْعِ أَثْبَتَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ، وَيُرَادُ بِهِ كَوْنُ الشَّرْعِ أَبَاحَهُ وَأَذِنَ فِيهِ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالشَّرْعِيِّ مَا أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِالْعَقْلِ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ نَبَّهَ عَلَيْهِ وَدَلَّ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ شَرْعِيًّا عَقْلِيًّا.
[ ص: 199 ]
وَهَذَا كَالْأَدِلَّةِ الَّتِي نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، مِنَ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ وَغَيْرِهَا الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ، وَإِثْبَاتِ صِفَاتِهِ وَعَلَى الْمَعَادِ، فَتِلْكَ كُلُّهَا أَدِلَّةٌ عَقْلِيَّةٌ يُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِالْعَقْلِ، وَهِيَ بَرَاهِينُ وَمَقَايِيسُ عَقْلِيَّةٌ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ شَرْعِيَّةٌ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِمُجَرَّدِ خَبَرِ الصَّادِقِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ بِمَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِخَبَرِهِ كَانَ ذَلِكَ شَرْعِيًّا سَمْعِيًّا.
وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَظُنُّ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مُنْحَصِرَةٌ فِي خَبَرِ الصَّادِقِ فَقَطْ، وَأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَا يَدُلَّانِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ أُصُولَ الدِّينِ نَوْعَيْنِ: الْعَقْلِيَّاتِ، وَالسَّمْعِيَّاتِ، وَيَجْعَلُونَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ، بَلِ
nindex.php?page=treesubj&link=29616الْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَبَيَّنَهَا وَنَبَّهَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ مَا يُعْلَمُ بِالْعِيَانِ وَلَوَازِمِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=53سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فُصِّلَتْ: 53] .
وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِالشَّرْعِيِّ مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ وَأَذِنَ فِيهِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ وَنَبَّهَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ وَشَهِدَتْ بِهِ الْمَوْجُودَاتُ.
وَالشَّارِعُ يُحَرِّمُ الدَّلِيلَ لِكَوْنِهِ كَذِبًا فِي نَفْسِهِ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ إِحْدَى مُقَدَّمَاتِهِ بَاطِلَةً، فَإِنَّهُ كَذِبٌ، وَاللَّهُ يُحَرِّمُ الْكَذِبَ، لَا سِيَّمَا عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=169أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ [الْأَعْرَافِ: 169] .
[ ص: 200 ]
وَيُحَرِّمُهُ لِكَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ يَتَكَلَّمُ بِلَا عِلْمٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=36وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الْإِسْرَاءِ: 36] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=33وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الْأَعْرَافِ: 33] ، وَقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=66هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آلِ عِمْرَانَ: 66] .
،وَيُحَرِّمُهُ لِكَوْنِهِ جِدَالًا فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=6يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ [الْأَنْفَالِ: 6] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=56وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [الْكَهْفِ: 56] .
وَحِينَئِذٍ فَالدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ لَا يَجُوزُ أَنَّ يُعَارِضَهُ دَلِيلٌ غَيْرُ شَرْعِيٍّ، وَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، بَلْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْبِدْعَةَ الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا اللَّهُ تَعَالَى تَكُونُ مُقَدَّمَةً عَلَى الشِّرْعَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا، أَوْ يَقُولُ: الْكَذِبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الصِّدْقِ، أَوْ يَقُولُ، خَبَرُ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى خَبَرِ النَّبِيِّ، أَوْ يَقُولُ: مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ يَكُونُ خَيْرًا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ مُمْتَنِعٌ.
وَأَمَّا الدَّلِيلُ الَّذِي يَكُونُ عَقْلِيًّا أَوْ سَمْعِيًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا، فَقَدْ يَكُونُ رَاجِحًا تَارَةً وَمَرْجُوحًا أُخْرَى، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ دَلِيلًا صَحِيحًا تَارَةً، وَيَكُونُ شُبْهَةً فَاسِدَةً أُخْرَى، فَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِخْبَارًا أَوْ أَمْرًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَارَضَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ النَّاسُ فَقَدْ يُعَارَضُ بِنَظِيرِهِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ حَقًّا تَارَةً وَبَاطِلًا أُخْرَى، وَهَذَا مِمَّا لَا رَيْبَ فِيهِ لَكِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُدْخِلُ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرَعِيَّةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ مِنْهَا مَا هُوَ دَاخِلٌ فِيهَا، وَالْكَلَامُ هَنَا عَلَى جِنْسِ الْأَدِلَّةِ، لَا عَلَى أَعْيَانِهَا.